يطغى الحدث في الشام على كل ما عداه من تطورات في المنطقة لذا كانت التسمية الرائجة زلزال، لأنها أكثر من انقلاب بعد سقوط النظام «السوري» بلحظة، أو ساعات معدودة بعدما استمر نحو نصف قرن ونيّف، وأدت بخطرين تاريخيين لعبور حدود الدولة السورية، وليشكلا كماشة عليها من الشمال والجنوب.
فقد تقدمت من ناحية تركيا قوى إسلامية تأتمر بأمرها باسم « قوات تحرير الشام »، وكانت متمركزة في ادلب، وبدعم أميركي ودولي مكشوف سيطرت على مدينة حلب، القلب الصناعي للجمهورية السورية وسرعان ما وصلت إلى دمشق مروراً بالمدن السورية التي انهارت تباعاً.
وتلاها بعد ساعات، هجوم «إسرائيلي» بري من الجنوب، اخترق خطوط الدفاع المقامة منذ عام 74 في الجولان وصولاً إلى أعلى نقطة عسكرية في جبل الشيخ تسمح بالإشراف على عمق البقاع اللبناني.
ثم امتدت ضرباته الجوية لتطال كل مقدرات ومواقع وثكنات والمطارات العسكرية وتحصينات الجيش السوري ومعامل صواريخه وابحاثه العسكرية وكذلك مخازن سلاحه وترسانته كلها، مما قضى على كل قدرات الجيش السوري.
أصاب أنطون سعادة في ثلاثينات القرن الماضي عندما وصف المخاطر التي تعترض بلادنا بقوله «ان الخطر اليهودي هو أحد خطرين، أمرهما مستفحل وشرهما مستطير، والثاني هو الخطر التركي وأضاف، الاتراك اخذوا منذ الآن يحسبون الاسكندرون السورية، تركية ويوثقون علاقاتهم القومية بها حتى انهم أطلقوا عليها اسماً تركياً جديداً (هاتاي) ولم يكتفوا بذلك، بل هم يتطلعون إلى أمام اسكندرون، إلى حلب ثم الجزيرة”.
الزلزال السوري كشف بوضوح حجم ارتباط ما جرى في سوريا منذ أكثر من عقد من الزمن، وكيف توقف التدحرج يومذاك، ولكنه لم ينته، وكانت تركيا رأس حربة وداعم أساسي لهذه المنظمات الإسلامية، واستمر دعمها إلى الآن، بأشكاله المادية والاستخباراتية وصولاً إلى جعل الجولاني نفسه رجل دولة يحمل اسم محمد الشرع.
ومن غزة، ثم جنوب لبنان، والى الشام اختار «الإسرائيلي» اللحظة السانحة ليدخل كلاعب أساسي في المعادلة إلى جانب تركيا.
لقد كشفت السيطرة على الشام، شمالاً وجنوباً عن حجم التنسيق بين طرفي الحدود مع الأميركي والأطلسي لهذا المشروع واستهدافاته، ألا وهو استكمال تأسيس الشرق الأوسط الجديد الذي يحمله مشروعا، رئيس وزراء العدو من على المنابر الأممية إلى الدول الداعمة لمواقفه.
والحقيقة ان هذا المشروع سبق ورفعه شيمون بيريز في ثمانينات القرن الماضي ولخصه في كتابه الشرق الأوسط الجديد بعبارة «دمج الأمن بالمصالح الاقتصادية».
ويمكن العودة إلى ما قاله الرئيس الأميركي ايزنهاور في الخمسينات، الذي تحدث عن المصلحة الحيوية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط نظراً لاحتوائها على ثلثي مصادر الطاقة، في العالم، معتبراً انه بأهميته يوازي ملف الأطلسي نفسه حتى انه اعتبر «هذا الحلف يفقد معناه إذا فقدت واشنطن مصالحها في الشرق الأوسط» نعم إلى هذا الحد.
لا نغفل هنا امران، مهمان، من الاستهدافات، إلغاء هوية المنطقة السورية العربية، واحلاله محل اسمها إضافة، استهداف الموارد المائية في المنطقة وتنوي دولة الاحتلال الهيمنة عليها، وهذا ما تم لها الان بعد وصولها إلى أعلى قمة في جبل الشيخ، حيث بات بإمكانها السيطرة على الينابيع، التي تروي دمشق ولبنان. وحيث ان تركيا تهيمن على دجلة والفرات، وكان قد سبق للدولة السورية أن أعلنت مراراً عن معاناتها من التضييق والحصار الذي مورس عليها من انقرة من خلال هيمنها على انبوب الماء على المنطقة، والذي لم تنج منه العراق أيضاً.
ان هذا التقاطع لهذا المشروع الشرق اوسطي، اقليمياً ودولياً بين المطامع الطورانية والصهيونية ومصالح الولايات المتحدة الأميركية في مشروع واحد. يجعل من دولة العدو اليهودي مخلبا للأميركي في منطقتنا والمكلفة بفرض قيود التبعية والاستغلال على المنطقة من المغرب إلى الخليج، فتفتح لها واشنطن ترسانتها.
المشروع الواضح الأهداف والمرامي على المنطقة، تارة باتفاقات التطبيع الاستسلامي مع الجوار «لدولة الاحتلال»، وطوراً بالهيمنة العسكرية الاستراتيجية على المنطقة، بدءاً من غزة إلى جنوب لبنان، ثم جنوب دمشق. وبالتالي تصبح تل ابيب القطب المهيمن على المنطقة، بينما يترك لواشنطن دولياً، ان تكون راعية الاتفاقات الاقتصادية والإقليمية والعالمية.
إذا، نحن بين فكي كماشة الأميركي والاطلسي وبلادنا المحاصرة، أمام خطر داهم من تقسيم المقسم، سايكس – بيكو جديد. يعيدنا إلى مطلع القرن الماضي من مرحلة تشكل الدول، يكون لتركيا فيها نصيب أكبر هذه المرة، كما لدولة العدو اليهودي.
ان سقوط الأنظمة أدى إلى اسقاط عقائد برأي البعض، كما أدى إلى استنهاض الأيديولوجيات الدينية، مما سهل الهيمنة للدين والحضور للاثنيات وما يدعى بالأقليات.
يقول سعادة «اننا نواجه أعظم الحالات خطراً على وطننا، نحن امام الطامعين والمعتدين في موقف تترتب عليه احدى نتيجتين أساسيتين هما الحياة أو الموت».
هذا التحدي يؤكد صوابيه العقيدة القومية الاجتماعية الجامعة لأبناء امتنا والموحدة لقدرات الكيانات من خلال تعاون وانفتاح اجتماعي واقتصادي ينهي التضييق القائم على دول الكيانات، وبجمع أبناء النسيج الاجتماعي الواحد. اننا مدعوين إلى تعزيز المطالبة بالتربية المدنية منهاجا ووضع قانون لإنشاء نظام مدني يجمع الأمة بكل اطيافها، وحده هذا يوحد القوى ويعيد جمع الامة مما يسمح بتخطي الواقع المأزوم.