مشروع سعادة النهضوي – يتبع ثامنًا، النهج العلمي في تحليل الواقع ومعالجته

آمن أنطون سعاده بأن النهضة الحقيقية لا تتحقق إلا عبر تبني منهجية علمية وعقلانية ترتكز على التفكير المنطقي والبحث الدقيق. وقد شدَّدَ على أن العلم دون هدف نبيل لا يختلف عن الجهل، إذ قال: “العلم الذي لا يفيد كالجهالة التي لا تضر.”[1] واعتبر أن “غاية العلم هي جعل الحياة جميلة، مجيدة، وحلوة.”[2] لذلك، فإن توظيف العلم في خدمة المجتمع يسهم في بناء نهضة شاملة تحقق الرفاهية والتقدم في مختلف مجالات الحياة.

لم يكن سعاده يرى العلم مجرد معرفة نظرية، بل اعتبره أداة محورية لإزالة أسباب الشقاء ولإحداث التغيير وبناء مجتمع متقدم يعتمد على المعرفة. كما رأى أن العلم وسيلة لتعزيز العقلانية، إذ إن الاعتماد على الحقائق والأدلة ينقذ الأفراد والمجتمعات من الوقوع في فخ السذاجة والخرافات. ويتضح هذا في دعوته للتخلص من “التدجيل العلمي والديني” الذي يخلط بين المفاهيم ويزيغ عن طريق الحقيقة.[3]

دعا سعاده إلى اعتماد التفكير العلمي القائم على الحقائق والتحليل التجريبي، بعيدًا عن الأوهام والتصورات غير الواقعية. بالنسبة له، التفكير العلمي هو منهج عملي ومنظّم، يعتمد على الدليل والمنطق، ويتناقض مع التفكير السحري والخرافي الذي ينكر العلم ويتجاهل مناهجه. وقد أضاف: “هذا النوع من التفكير هو الوحيد الذي يُرجى من ورائه عمل نظامي يؤدي إلى تحقيق الغايات التي نحلم بها.”[4]

كان سعاده يرى في الشباب والطلاب الأمل الأكبر للنهضة، لأنهم يتطلعون لطلب العلم والمعرفة الصحيحة، ويسعون وراء الحقيقة. لذلك، خاطبهم بلغة العلم والمعرفة، مشجعًا إياهم على بناء وعي قومي سليم يعتمد على التفكير النقدي والتحليل المنطقي. قال لهم: “كل طالب منكم يدرك أهمية وجوده في الحركة القومية الاجتماعية، لأن الطالب يسعى للعلم والمعرفة الصحيحين. يسعى لليقين، يسعى لبناء نفسي سليم يمكنه من أن يكون إنساناً محترماً.”[5]

إضافة إلى ذلك، اعتبر سعاده أن البحث عن الحقيقة هو السبيل لتحقيق الوعي القومي السليم الذي يعين الأمة على التحرر من الفوضى والتشتت. ففي خطابه لطلاب دمشق، قال: “طلب الحقيقة هو الطريق الصحيح. ويسرّنا أن نرى من يظهرون استعدادهم للاشتراك في معرفة الحقيقة لنكوّن معهم هذا المجتمع الواحد الذي ينقذ الأمة السورية.”[6] هنا تتجلى رؤيته لضرورة اتباع طريق العلم والمعرفة الحقيقية، مؤكدًا أن العلم هو السبيل لبناء مجتمع موحد ومستقل، قادر على مواجهة التحديات بثقة وعزيمة. تتطلب هذه الرؤية بيئة تشجع على الابتكار وتدعم العمل الجاد لتحقيق التقدم، بعيدًا عن الكسل والاعتماد على الآخرين والتنظير الفارغ.

وشدَّدَ سعاده على أن “عقل الطلاب يجب أن يكون عقلًا مفكّرًا، يتوجه نحو الحقيقة، ويستضيء بالعقل ويسلك طريق المعرفة الواضحة للوصول إلى الوعي القومي.”[7] باختصار، كان النهج العلمي بالنسبة له العمود الفقري لبناء مجتمع ناهض، حيث إن العلم والمعرفة هما القوة الدافعة للابتكار والإبداع، وهما الأداتان اللتان يمكن من خلالهما تحويل الواقع وبناء مستقبل مشرق ومستقل للأمة.

في الوقت الذي كان شعبنا يتلهى في عالم الخرافة والأوهام والمعتقدات الخاطئة، ويرتع في حقول من الجهل المطبق والتخلف العقلي والجمود الفكري والتحجر العقائدي، جاء سعاده ليؤكد على ضرورة استخدام العلوم والمعارف لتحسين الحياة وتحقيق الازدهار، وهو القائل: “المجتمع معرفة والمعرفة قوة.”[8] لذلك دعا إلى مواكبة عصر التخصص الراقي الذي نعيش فيه واعتماد الحقائق والمعرفة متعددة التخصصات “لأن العصر الذي نعيش فيه هو عصر عمل وتحقيق مطالب عليا.”[9] إنه عصر إنتاج وابتكار وإبداع، وعصر نهضة قادرة على تحقيق إنجازات علمية كبيرة.”

وقد شدَّدَ في كتابه “أعداء العرب أعداء لبنان” على أنه إذا قصَّر بعض شعبنا في مواكبة هذه النهضة، فعلى المتعلّمين ألا يتغافلوا عن “قوة الحقائق العلمية، ووجوب إعطاء القوس باريها في كل أمر من الأمور الفنية، أو العلمية الاجتماعية، أو السياسية أو غيرها.”[10] فالعلم ينقذنا من السذاجة، وبخاصة في القضايا الاجتماعية السياسية.

ولم يكتفِ سعاده بالدعوة إلى التفكير العلمي النظري، بل شدَّدَ على أهمية التطبيق العملي، مؤكدًا أن التجارب الميدانية والاختبارات الواقعية هي التي تثبت صحة الأفكار وتضمن فعاليتها في تحسين المجتمع.

كان يدرك أن النهضة لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال نهج علمي متكامل يتجاوز حدود التقنية إلى مجالات الفكر والثقافة والقيم. فالنهوض، في نظره، يبدأ بتحرير العقول وتوجيهها نحو المعرفة الحقيقية التي تقوم على الحقائق العلمية والمناهج السليمة، وليس على الخرافات والأوهام. وكان يدعو إلى وعي متعدد التخصصات، يستفيد من مختلف العلوم والبحوث ليبني صورة متكاملة عن العالم، مما يعزز القدرة على اتخاذ قرارات حكيمة ومستدامة.

تاسعًا، العمل المؤسساتي:

انطلاقاً من رؤيته العقلانية والمستقبلية، أسس أنطون سعاده مؤسسات قومية جديدة قادرة على تجديد حياة الأمة والنهوض بها، لتحل محل المؤسسات التقليدية القائمة على الطائفية والعشائرية، التي كانت عاجزة عن تلبية حاجات الشعب وتقديم الحلول لمشاكله. ورأى أن هذه المؤسسات الجديدة يجب أن تكون مرتبطة بشكل عضوي بمبادئ الحزب وغايته، فلا معنى لوجودها إن لم تكن تخدم قضية سامية واضحة، فالمؤسسات بلا قضية تخدمها لا فائدة منها. من هذا المنطلق، كانت هذه المؤسسات أدوات إصلاح فعلي تهدف إلى إنقاذ المجتمع من الفساد والانحطاط من خلال تخطيط مدروس وعمل منظّم، وترتبط بالعقيدة القومية التي تسعى لاستنهاض المجتمع وتطهيره من المفاسد الأخلاقية والثقافات الانهزامية.

المؤسسات القومية ليست مجرد هياكل إدارية، بل هي مؤسسات يقظة وقادرة على الإبداع، تهدف إلى توثيق المصالح القومية في مجالات السياسة، والاقتصاد، والاجتماع، وغيرها، وتسعى إلى ابتكار الخطط والقواعد العلمية لتطوير هذه المصالح وزيادتها. كما تعمل على القضاء على الفساد والفاسدين، وتوحيد الجهود بعيداً عن المصالح الأنانية والشخصية التي تعيق تحقيق الأهداف القومية العليا.

بالنسبة لسعاده، كان التنظيم والانضباط حجر الزاوية في بناء مجتمع قوي ومستقل، حيث اعتبر أن الالتزام بالنظام يضمن وحدة الصف وتماسك المجتمع، مما يجعل تحقيق الغايات السامية أمراً واقعياً، بعيداً عن الفوضى والتشتت. وأكد أن المؤسسات الناجحة هي التي تتمتع بالقدرة على القضاء على الفساد وتوحيد الجهود، مع اعتمادها على الكفاءة والتخصص والالتزام العلمي والبحثي، وهو ما يعزز من قدرتها على الابتكار والتطور في جميع المجالات التي تخدم مصلحة الأمة.

كما أن دور المؤسسات القومية لا يتوقف عند التنظيم والإدارة، بل يمتد ليشمل الجوانب التثقيفية والتربوية. فقد أشار سعاده في محاضراته إلى أهمية التعليم والثقافة في تحقيق النهضة القومية، مؤكداً أن التوعية المنظمة والوعي الصحيح هما من أسس العمل النهضوي. ورأى أن المؤسسات القومية يجب أن تلعب دوراً تربوياً، يسهم في إعداد جيل واعٍ ومدرك لقضايا الأمة، من خلال تنظيم الأنشطة الثقافية والندوات التي تعزز الفهم العميق لمبادئ النهضة وأهدافها.

يعتبر سعاده أن حزبه هو حركة هجومية دائمة تسعى إلى تغيير الواقع، رافضةً المشاريع الاستسلامية وحياة الذل والخنوع. والمؤسسات القومية هي أدوات لتحقيق مشروع النهضة، من خلال الابتكار المستمر

إن ما قام به سعاده من “إيجاد المؤسسات الصالحة لحمل مبادىء الحياة الجديدة وحفظ مطاليبها العليا وخططها الأساسية”[11] اعتبره عملاً اساسياً غايته الاهتمام بالقضية القومية وتحقيق أهداف الأمة. وقد أكَّدَ على أهمية المؤسسات بقوله: ‘إن إنشاء المؤسسات ووضع التشريع هو أعظم أعمالي بعد تأسيس القضية القومية، لأنها تحفظ وحدة الاتجاه والعمل وتضمن تحقيق أهداف الأمة وغاياتها السامية.”[12]


[1] أنطون سعاده، المحاضرات العشر 1948، ص 48.

[2] كلمة الزعيم في مدرسة الناشئة الوطنية، النشرة الرسمية للحركة القومية الاجتماعية، بيروت، المجلد 1، العدد 6، 15/2/1948.

[3] أنطون سعاده، أعداء العرب أعداء لبنان، ص 43.

[4] أنطون سعاده، الآثار الكاملة – الجزء الثاني 1932-1936، ص 16.

[5] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 1948 – 1949، ملحق رقم 6 خطاب الزعيم في طلبة دمشق (صدى الشمال – صوت الجيل الجديد، بيروت، العدد 82، 31/01/1960).

[6] المرجع ذاته.

[7] المرجع ذاته.

[8]  صاغ هذا الشعار عام 1948 وتحديداً يوم 16 حزيران على سجل خاص لشاب يافع من بيروت.

[9] أنطون سعاده، الآثار الكاملة – الجزء الثاني 1932-1936، ص 18.

[10] أنطون سعاده، أعداء العرب أعداء لبنان، 1979، ص. 43‏.

[11] خطاب أول آذار عام 1938، سعاده في أول آذار، 1956، ص 48.

[12] خطاب أول آذار عام 1938، سعاده في أول آذار، 1956، ص 48.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *