هل عبد السوريون آلهة واحدة بأسماء مختلفة؟

مقابلة أجراها ابراهيم مهنّا مع الباحث في تاريخ المشرق، وطبيب أسنان د. بشار خليف

هل أن طقوس العبادة أو طقوس الموت وطقوس الدفن وطقوس الأفراح وطقوس الأعياد كانت واحدة؟

هل يمكن الكلام عن وحدة أساطير انتشرت في سوريا في النماذج السومرية والبابلية

والكنعانية؟

سلامات سأجزئ السؤال على حلقات….


الدكتور بشار خليف:

وحدانية المشرق                                                      

                                                     

مالَ الاستشراق الغربيُّ حين قرأ وثائق المشرق السومرية والأكادية بفرعيها البابلي والآشوري ووثائق إبلا وماري وأوغاريت وغيرها، إلى الأخذ بفكرة أن تاريخ المشرق الاعتقادي (الديني) يعجّ بالتعددية والرموز الإلهية. وهذا ما تكرّس في الأدبيات التاريخية المشرقية والعربية الحديثة.

عودةٌ إلى ما قبل الوحدانية المشرقية في ظهورها الأول، نحن نعلم أنه قبل ظهور الزراعة والاستقرار في الألف التاسع قبل الميلاد تقريباً، لم تكن الموجودات الإنسانية العاقلة تعي الظاهرة السماوية بتمظهراتها العديدة حتى في الشمس والقمر والريح وغيرها.

تطلّب الوعي هنا مساحةً واسعةَ من معالم الاستقرار الإنساني، ثم إنتاج الغذاء، فمحاولات البدء في فهم الطبيعة والسيطرة عليها إلى حدّ ما.

استقرّت المجتمعات الزّراعية الأولى، زَرعَتْ، أَنْتَجَتْ، فَهِمَتْ تفاصيلَ الطبيعةِ وبيئتِها، إيقاعَها أيضاً، زادَ الإنتاج الزراعيّ، وفّرَتْ، بادَلت المجتمعات الأخرى بمنتوجاتِها، وُلِدَتِ التّجارة بالمقايضة، احتاجت التجارةُ هنا_ وهي ابنة الزراعةِ بامتياز_ إلى توثيقِ المقايضةِ وحتى المبيعِ والشراء، وهكذا، مضتِ المجتمعاتُ نحو الكتابة= الابنة الثانية للزراعة والابنة الأولى للتجارة. اتّسع العمران، تطوّرَ، ازداد عددُ السّكان، تلاصقتِ البلداتُ الزراعيّةُ، لِتَلِدَ الزراعةُ ثالثَ مواليدِها: المدن، مع حوالي المنتصف الألف الرابع قبل الميلاد.

في كل هذه الطمأنينة الزراعية، وعبرَ زوال الخوف الوجوديّ، حدّق الإنسانُ أكثر في السّماء، في الشّمس والقمر، في الرّياح، في كلّ شيء فوق.

وإلى ما تحت، حيثُ الأرضُ الأمّ، كانَ النّهرُ صديقَ الكائنِ البشريِّ المصنوع من الماء.

وكانَ الطّوفان، وكان الجفاف، وكان الموتُ أيضاً. هكذا، أصبحتِ المجتمعاتُ ترمّز أهوالَها وجمالياتِ أمكنتها، فصنعتْ مخيلتُها رمزيّةَ الدفءِ والعدالة في الشمس، رمزيةَ الزمن في القمر، رمزيةَ الريح في “إنليل”، ورمزيةَ الماءِ في “إنكي” ورمزية الموت …. وهكذا.

هذا الجدلُ الأرضيُّ السماويُّ في العقل المشرقي، سيلدُ مع نشوءِ المدن وظهور الكتابة وحدانيةَ المشرق في “آنو” (السومري)، فإذاً، الوحدانيةُ نشأت مع نشوء المدن، ولاسيما بانبثاق السلطة السياسية (الملك الكاهن الأكبر- خليفة الإله على الأرض).

قالت الوثيقة: ” عندما خلق “آنو” السماء وخلق “إيا” المياه.. ومن المحيط أخذ “إيا” قطعة من الطين، ومن هذه القطعة كوّن “إيا” بالتعاقب، إلهاً صانعاً للآجر، إلهُ مزرعة القصب والغابة، الإله النجار، الإله الحداد، الإله الصائغ، الإله قاطع الحجر، وهذه الآلهة بدورها، كُلّفتْ ببناء المعابد وتأثيثها. كذلك خلق “إيا” الإله الخاص بالخميرة وشجرة العنب في سبيل تكاثر القرابين في المعابد.”

نلحظُ هنا، المتوالية الخَلقيّة من السيد العالي “آنو” الواحد والخالق باتجاه هرمٍ نحو الأسفل يضم رموزاً إلهية وسيطة مرتبطة بالحياة. في المستوى الأول كانت هذه الوسائط الإلهية مع البشر تتشكل من “إنليل”، “شَمَشَ”، “سين”، “إنكي”، “إنانا”،….. إلخ.

في المستوى الثاني تكثر في الوثائق آلهاتٌ محليّةٌ (مدينية) وغيرها حرفيّة (أربابُ عمل) حتى يتبدى وكأن لكل الموجودات رموزٌ إلهية، إلهٌ للمحراث، إلهٌ للمنجل … وهكذا.

في الأدبيات الاستشراقية، لم يتم التنبه إلى الفاصل مابين “آنو” وما تحته، بحيثُ بدا وكأن كل هذا المجموع الرمزي الاعتقادي في نفس السوية الإلهية دون أي تصنيف، الجواب هنا في ثلاثة أمثلة وثائقية:

أولاً: وثيقةٌ تعود للملك “لوجال زاجيزي” مخاطباَ “إنليل”:

” ياسيد البلاد “إنليل”، انقلْ طلبي إلى أبيك المحبوب “آنو” بأن يطيل عمري، ويجعل أراضيّ في مأمن من الأخطار، ودعه يعطيني محاربين بعدد عشب الأرض…”

نفهم هنا، تدرّج الألوهة من فوق: “آنو”، إلى ما تحته: “إنليل” عبر الأبوة المعنوية والتي استمرت حتى الديانة المسيحية.

ثانياً: في ملحمة جلجامش يعودُ “جلجامش” و “أنكيدو” من غابة الأرز، تستوقفه “عشتار” آلة الحب طالبةً أن يكون عريسَها. يرفض “جلجامش”، تحل غضبةُ الحبّ عليه.

قالت الوثيقة: ” فتحت “عشتار” فاها لتتكلم

تقول للإله “آنو” أبيها:

أبي، اخلِق لي ثور السماء

ليمتلئ “جلجامش” ….

إذا (لم تخلق ثور السماء)

سأضرب (بوابات العالم السفلي)

سأعتق العالم السفلي

سأجعل الأموات يصعدون ليُتعِبوا الأحياء.

(وأزيد عدد الأموات) على (الأحياء).”

نلحظ هنا، سيطرةً الحبِّ على الموت في عقل المشرق.

في الوثيقة الأولى، كان “إنليل” الابن المعنويّ ل”آنو”، إله الريح إبناً معنوياً للإله العالي.

وفي هذه الوثيقة أيضاً، آلهةُ الحب والتي تحمل في كرهها وجه الموت هي ابنةٌ معنويةٌ ل “آنو”.

ثالثاً: في الألف الثاني قبل الميلاد، يرد في مقدمة قوانين “حمورابي” الأموري ملك بابل:

” دعاني “آنو” أنا حمورابي إلى نشرِ العدالةِ في البلاد والقضاءِ على الشر والأشرار ومنع القوي من ظلم الضعيف”

نلحظُ في النقش المصوّر لقانون “حمورابي” وقوفَ الملك حمورابي” أمامَ إله الشمس الجالس الذي هو رمز العدالة والمختص بشؤونها من قبل “آنو”.

بهذه الأمثلة الثلاثة توضحت معالم التصنيف الإلهي كما رأتها ذهنية المشرق.

الإشاراتُ هنا: كلُ هذا المنحى التديني القاسي في الألف الثالث قبل الميلاد، نتلمسه أكثر في الجناح الرافدي للمشرق بأكثر مما نتلمسه في الجناح الشامي. هذا أولاً.

ثانياً: حتى في الألف الثاني قبل الميلاد، خَفَتَ الحس التدينيّ في كامل المشرق، مع الإشارةِ هنا إلى ظاهرة الإلهات المدينية لكل مدينة مع بقاء السيد العالي الواحد الخالق المتواري في سدرة منتهاه، هذا الإله المديني، مع بداية الألف الثاني قبل الميلاد، أصبح أقرب إلى إلهٍ قَبَليِّ مديني بحسبِ الفرع الأموري الذي كان منه. مثالُ ذلك، الإله “مردوخ” في بابل. الإله “آشور” في آشور، الإله “أمورو”، الإله “سين” إله القمر …. وهكذا، و”أدد” في ممالك مدن المشرق كيمحاض (حلب) مثلاً.

في النهاية، لعل تفكيك طريقة التفكير المشرقي توضح استناداً إلى الوثائق، طبيعةَ مجتمعاتِ المدنِ تلك، بِذا، بَطُلَت الفكرة الاستشراقية التي قال بها الاستشراق وتبعه الباحثون العرب في أن التوحيد الأول في التاريخ كان عبرانياً. الملاحظة هنا أن “يهوى” إله قوميّ لمجموعٍ قوميٍّ دينيّ، في حين أن “آنو” الألف الثالث، الذي تراجعت مكانته مع الألف الثاني قبل الميلاد لصالح الإله “إيل” كانَ إلهاً للبشر دون تمييزٍ قوميٍ.

حتى أنه في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، شاء الاستشراق أيضاً أن يصفَ انقلابَ “أخناتون” (أمنحوتب الرابع) بأنه توحيدُ عبر إله الشمس، هنا لا يمكننا إلصاق صفة التوحيد إلا بإله أعلى من رموز الظواهر الطبيعية.