أمام مشهد عالم يلوكه الموت، و تتملكه التفاهة، ويجتاحه التخبط،
أمام مشهد لعالم غارق في الأنين والنواح ولطم الوجه…
لقد مات الإله كما أعلن نيتشه، وماتت الثقافة كما أعلن يوسا، وانتهت الديمقراطية كما أعلن هث، وانتهى التاريخ كما أعلن فوكوياما، وأكملت الحضارة طور بؤسها كما أعلن جينو، ومات الفكر الغربي كما أعلن شورون، ولم تعد اليوتوبيا تحلم بخلق شيء جديد فاضل كما أخبرنا جاكوبي،
أمام هذا المشهد القاتم، ما الذي تبقى لم يشهر موته بعد؟
أو كأن العقل الغربي متردد أو مكابر أمام موت سريري كي يشهر الموت، منتظراً توقف الدماغ كي يفعل، أو كأن الثقافة تنتظر زمناً إضافياً كي تعلن اضمحلالها بعد أن احتلها المهرجون وعاثوا فيها فساداً؟ ما الذي بقي حياً في هذا الكوكب لم يعلن موته؟
ونحن لم نكن ننتظر انقضاء عصر الاستعمار، وعصر ما بعد الاستعمار، وعصرالحداثة وما بعد الحداثة، والإنسانية وما بعد الإنسانية، كي نعلن هذه الخاتمة. هي قاعدة أرستها سوريا التاريخية الحضارية منذ آلاف السنين ورسختها القومية الاجتماعية: لا يمكن لعالم أن يعيش بلا قيم؛ هو عالم محكوم بالتوحش و التآكل. لا يمكن للإنسانية أن تنمو في نظام بلا فضائل، هذا ما أعلنه سعاده. ماذا يبقى من الحياة اذا اضمحلت القيم؟ الكرامة و العدالة أعلى مطالب الحياة.
منذ بدايات التاريخ، كانت سورية رائدة في خلق الفضائل والقيم، ونشر ثقافة المحبة والتسامح والانعتاق من العنصرية. فالمدينة الرومانية أصبحت مدينة كونية مع زينون، والأمم كلها مهدية بتعاليم الناصري والأبجدية للنشر لا للاحتكار، وآلهة تدمر تعلمك أن لا تشتم إلهاً لا تعبده. هو خط إنساني مناقبي واحد …
في لحظة زمنية ما كانت هزائم صور وقرطاجة وبابل تضع حداً لعصر إنساني عظيم مُشرق.
يومها دخلنا العصر الجديد، عصر الانحطاط الحضاري؛ فكان غياب الدور السوري الحضاري، تقهقراً في حركة التاريخ… دمرت روما قرطاجة عن بكرة أبيها، ومحا الإسكندر صور، بدأ التاريخ الأوروبي الجديد بإبادات منابع الحضارة. كأنها عقدة الدونية في تحليلها النفسي المرضي، أو كأنها الهمجية في توصيف تماس الحضارات؛ وكأن الانتقام من الحضارة كان وجودياً حتى الموت؛ انتقلت الحضارة الى الغرب و بدأت منجزاتها…
كل كم الإنجازات، لا يمكن أن يمر دون التوقف عند الاستعمار وتجارة الرق… كان الاجتياح لكل أمم العالم أجمع، وسلبت ثرواتها، وبيع أبناؤها عبيداً، وقد جمع سكانها في ما يشبه حدائق الحيوانات.
لقد قامت الحضارة على ظهر هؤلاء وبثرواتهم وجهودهم العضلية… باسم الحرية والديمقراطية والإخاء والمساواة تم صياغة عالم جديد، عالم أسود، كان دور الإعلام منذ تأسيسه محو هذه المحطات من أذهان البشر. هذا ومازال المشروع قائماً.
باسم الديمقراطية عاد اليهود ليثأروا من بابل بعد ألفين وستمئة عام. حتى المسيحية السورية، دين المحبة والتسامح، دين الفضائل والسمو الأخلاقي، مسختها ونقلتها من نظام تعاليم أخلاقي إلى نظام إمبراطوري استعماري، فكانت المسيحية الغربية إمبراطورية عسكرية مفارقة لكل قواعد التعاليم التي بشرت بها المسيحية بتعاليمها السورية، وعادت وتكلفت ثورة دموية لفك قبضتها… كان أدب الأنين المختزن في نفوس الشعوب في أبهى تجلياته في الأدب والرسم والموسيقى والغناء، انتقم المقهورون من المستعمر بالفن والشعور. الغرب المتشدق بالحرية والديمقراطية، مدين باعتذار تاريخي لأمم الشرق والأميركيتين… نحن لسنا غوييم، نحن من وضع قواعد المدنية والمناقب والحضارة.
في عالم الليبرالية، و النيوليبرالية، يسود التوحش المشهد العام، غابت الرعاية وغابت كرامة الإنسان… كل الغاية مراكمة الثروات والرساميل. يعيش الإنسان في عالم مثلث الفقر والجوع والمرض، لم يعد إنساناً لقد أصبح عدداً خاوياً متغرباً، مستلهكا لكل أنواع السلع؛ لم يبقَ شيء لم يتحول إلى سلعة للاستهلاك، وكأن شايلوك ما زال يطالب برطل من لحم هذا العالم المنهك مقابل ما أقرضه من مال… لقد أصبحنا في عالم كله “شايلوكات”.
واليوم بعد أن تراجعت المركزية الأوروبية عادت لتتمركز في الولايات المتحدة، بنظام أسوأ من النظام الأوروبي. على أن الأساس الفلسفي واحد: النظرة الفردية إلى الحياة، الفرد غاية ومركز وقيمة؛ وهذا ما حذر منه سعاده منذ عقود طويلة. أما نظام “دعه يعمل دعه يمر”، إذا به “دعه يعمل دعه يموت”. وأمام غاية تبرر وسيلة، يسود التوحش الذي لا ينتج إلا المرض والفقر والجوع.
لقد قادت الفلسفة الفردية العالم إلى الهلاك، فكانت أسوأ تجربة لليبرالية وستكون النيوليبرالية أسوأ منها. ماذا يعني أن يقوم نظام يسوق لحق الفرد وحريته وقيمه؟ ماذا يعني ان تتحول الحياة كلها بكل أنشطتها إلى غاية واحدة وهي تراكم الثروات إلى ما لا نهاية، تراكم الشذوذ والانتحار والاستنساخ والإساءات. كلها حقوق للفرد يجب ضمانها وحمايتها والدفاع عنها. ماذا يعني ن تشعل حروب بهدف بيع السلاح، وتطلق فيروسات بغاية بيع لقاحات؟ وتتدمر البيئة بدافع انتاج أكثر؟ كل شيء أصبح في خدمة التوحش. ماذا يعني أن تسطو معرفة بلا رادع أخلاقي؟ ماذا يعني أن يتم تجريد العلم من النظرة الأخلاقية باسم الحياد والموضوعية؟ يعني ان يحصل كل ما نراه. و يعني ايضا ان الانسانية في خطريعني أن راهنية فكر سعاده هو الأساس: الغاية الشريفة تلزمها وسيلة شريفة.
إن كل ما يجري اليوم من كوارث اقتصادية وسياسية وبيئية حتى ناتجة عن اضمحلال المسؤولية الأخلاقية العليا، أي الواجب تجاه ما يجري، وعليه نحن في عالم يزداد تدميراً لكينونته.
أليس للإنسانية مصلحة عامة يجب الدفاع عنها وحمايتها، كما مصلحة الفرد؟ من يحمي الإنسانية في هذا العالم المتوحش؟
من اللحظة الأولى التي أعلن فيها الناصري أن السبت للإنسان وليس العكس، وأعلن أن الإنسان غاية الوجود، كان إعادة صياغة للوجود على قواعد المعرفة و الأخلاق. لذلك إذا كان الإنسان غاية الوجود، فيصبح السؤال: ما هي مسؤولية الإنسان تجاه هذا الوجود، والذي هو انساني بالضرورة؟
لقد كانت القومية الاجتماعية حاسمة في إرساء حياة جديدة على قاعدة الفضائل، فالسياسة هي فن خدمة أغراض قومية، هي خدمة، وإن أي نظام لا يقوم على الأخلاق هو نظام لن يكتب له النجاح. مشكلة العالم اليوم هو تخليه عن القاعدة الأخلاقية أهم مكوناتها الواجب. كيف تتخيل عالماً تحكمه سلطة محررة من الواجب؟ هي الأنموذج الذي ترونه اليوم؟
إن قضية الفكر القومي الاجتماعي إعادة صياغة هذا العالم على هذه القواعد. هذا كان دور سوريا التاريخي، فكانت الرواقية، وكانت المسيحية السورية، وكانت المحمدية في أنموذجها السوري. واليوم هو تحدي الفكر القومي الاجتماعي عينه بكل عظمته.
لعل العقلية الأخلاقية الجديدة أسمى ما قدمه الفكر السوري، أقله في الألف سنة الأخيرة، وهي الكفيلة بإخراج العالم من مأزقه، ولعل أرقى فهم أن السلطة مسؤولية أخلاقية، وأن السياسة مسؤولية أخلاقية، والوجود كله هو مسؤولية أخلاقية.
ويعيبنا البعض أن سعاده استخدم توصيف “منحط”، وهو مناف لمبدأ الحياد، نعم إن الثقافات والفلسفات التي تقود العالم اليوم هي أكثر من منحطة، هي مدمرة، أقله لكرامة الإنسان وعزته؛ وإن الحياد باب الباطل، بخاصة في معركة الحق والباطل.
عندما أفلست الليبرالية، أعلن فوكوياما أنّ ما يجري هو صدام حضارات، وردّ عليه إدوارد سعيد بأنها صدام التعريفات، ونحن نعلن أنها بالأساس صدام رؤى ومفاهيم أخلاقية.
و يبقى السؤال يكرر نفسه: ما الذي لدى القومية الاجتماعية لتقوله للعالم اليوم؟ هو ما قالته سوريا منذ خمسة آلاف عام:
إن عالماً بلا قيم و لا عدالة، لعالم خاوٍ، لَعالم محكوم بالتوحش والتآكل، وهو لأخطر من الموت بكثير.
وكيل عميد الثقافة ابراهيم مهنا