أمام هول المشهد وحضور مشاريع إعادة تقسيم المنطقة، وتدمير كل مقومات الدفاع في دمشق، قد يبدو السؤال عن سبب هذا الانهيار السريع للنظام، ترفاً فكرياً، ولكنه ليس كذلك.
لقد سبق انهيار دمشق، تهاوي العراق وليبيا وغيرهما، فما الذي يجري؟
هذه الأنظمة كلها ولدت من رحم الأزمات والهزائم في صراعنا مع الصهاينة، واستلمت الحكم عبر انقلابات عسكرية أطاحت بتجارب حكم كانت ما تزال طرية العود بعد رحيل الاستعمار والانتداب.
لقد استمدت هذه الأنظمة شرعية «موهومة» عبر تنكب مهمة مقارعة العدو وتحرير فلسطين، علما أنها وفي واقع الحال أسهمت (أو حاولت أن تسهم) في هذا الصراع في مراحل مختلفة. ولطالما كان هذا العنوان حجة للإمساك بالسلطة، ويعفيها من العودة إلى الشعب، ويجعل كل مساءلة لها بهذا الشأن في موضع الخيانة والعمالة.
فغابت التعددية، وتحولت هذه الأنظمة بسرعة إلى أنظمة مخابراتية، تحصي على الناس أنفاسها، متكئة
على مافيات من الفساد والمحسوبية. وغالبا على شبكة مصالح فئوية وطائفية.
وهكذا وجد الناس أنفسهم أمام معادلة صعبة، أنظمة متخلفة وفاسدة في الداخل، وعدو طامع في الخارج، يستند على منظومة غربية استعمارية، تملك تقنيات القرن الواحد والعشرين، وتعمل بذهنية القرون الوسطى، وتمثل امتدادا لعصر الإمبراطوريات.
وباتت كل محاولة لتطوير النظام وتغييره إنما تصب في خانة المصالح الغربية والصهيونية،
حتى الأحزاب النهضوية والتغييرية وقعت في هذا الوهم، وتقبلت فكرة أن المواجهة تتقدم على التنمية والإصلاح، والأنكى أن هذه الأحزاب مارست العقلية نفسها في بنيتها الداخلية، فسلمت أمرها إلى انقلابيين يقودونها بعقلية المافيا والمصالح الضيقة والتبعية لأجهزة استخباراتية.
قد يصح تأجيل العناوين الإصلاحية في معركة أو حرب تستمر لسنة أو سنتين، ولكنه يسقط أمام مواجهة مستمرة منذ مئة عام، ومرشحة للاستمرار. علما أن حق الشعوب في التنمية والتطور يوازي حقها في التحرر والاستقلال. لقد فقد المجتمع مناعته الأساسية عبر سنين من الفساد والتسلط، فأصبح فريسة سهلة لمشاريع الهيمنة والتفتيت، من تركيا إلى أميركا وطبعا الكيان العبري.
أما الآن وقد سقطت هذه الأنظمة فإن على قوى التغيير الوطنية أن تغير أولوياتها، فبناء المجتمع المقاوم هو الأهم، وهذا يمر حتماً بتطوير وإصلاح الأنظمة من خلال فكر علماني جامع يتجاوز الحواجز والتقوقعات الطائفية التي قد تنفجر في أي وقت،
ويمر بعملية تنمية مستمرة تجعل المواطن مطمئنا إلى موقعه في الدولة.
لقد حكمت المنطقة أحزاب ترفع شعارات الوحدة على مدى ستين عاما بقيت خلالها الكيانات السورية في حالة خصام ومواجهة،
أنظمة الوحدة المزعومة لم تسير قطاراً واحداً يربط بين عواصم دولها، ولم تقم أية شراكة حقيقية في الاقتصاد وفي الدفاع وفي السياسة.
أحزاب الوحدة من المحيط إلى الخليج تركت مجتمعاً تفترسه العصبيات المذهبية، وتحكمه التكتلات والتوازنات الطائفية، الأمس في العراق واليوم للأسف في الشام.
لقد تهيبت هذه الأنظمة إيجاد قوانين مدنية تخرجها من سطوة الدين على الدولة، فبقيت قوانينها وأنظمتها متخلفة، حتى أننا كنا نرى وزيرا للأوقاف يحمل فكرا دينيا متزمتا.
لن يرحمنا التاريخ ولن يرحمنا الناس إذا لم نقف لنجري جردة حساب ونصحح البوصلة.
ليس «التنوير» عبارة خشبية من الماضي، بل هو ضرورة راهنة أكثر من أي وقت مضى، فلننهض ونتنكب المهمة وإلا فعلينا (وليس على الدنيا) السلام.