يؤخذ علينا نحن العرب أننا نفكر بعواطفنا ورغائبنا وليس بعقولنا، عندما يتعلق الأمر بالقضايا السياسية والتحولات في بلداننا خاصة. على كل، تأكيد هذا الرأي أو نفيه بحاجة إلى دراسات علمية يجريها مُتَضَلِّعُون وأهل اختصاص. أما نحن، فنحاول قدر ما نستطيع نَظْمَ مقالنا هذا على قاعدة علمية، مفادها أن الواقع المادي المعيش هو مصدر دراسة التحولات السياسية والاجتماعية، ومنه تنطلق المعرفة وإليه تعود للتحقق من صدقها.
سقط النظام، وبقيت سوريا. حقيقة نبدأ بتثبيتها، تدحض أباطيل الاستبداد العربي بمختلف تبدياته وتنويعاته، وقد دأب منذ قرون على ربط الدولة بشخص الحاكم وأسرته، وتكريس ذلك كأحد شروط الانتماء.
سوريا لم تسقط، ولن تسقط. لا نقول ذلك بتأثير الانفعالات العاطفية، بل بحكم التاريخ والجغرافيا الثابتين الرئيسين في صنع السياسة. سوريا لن تكون إلا عربية الوجه والقلب واللسان، كما يطمئننا سجلُّها في التاريخ العربي. الذي سقط في سوريا، يوم الثامن من كانون الأول 2024هو الحكم المطلق أحادي النظرة، ضمن متوالية سقوط النُّظُم الديكتاتورية والاستبدادية في عالمنا العربي منذ عام 2011. سقطت منظومة الفساد والطغيان والخوف، وثقافة الرعب وقهر الإنسان وتحطيمه نفسيّاً من الداخل.
شئنا أم أبينا، أعجبنا أم لم يعجبنا، دخل العرب مرحلة جديدة بدأت في ذلك العام. ويعلمنا الأستاذ التاريخ وهو خير معلم، أن تفاعلات هذه المرحلة تتواصل بين مدٍّ وجزر، وعادة ما تستغرق وقتاً قد يطول أو يقصر حسب الظروف ومقتضيات الأحوال. فقد استغرقت أربعة قرون في أوروبا، بدأت بالقرن السادس عشر. أما بالنسبة لواقعنا العربي، في عصر الانترنت والفضاء المفتوح سريع التحول والتطور، فنرجح أن مداها الزمني يقاس بالعقود وليس بالقرون. خلال هذه المرحلة، تدفع الشعوب ثمن وعيها حتى تسلك طريق النهوض والتقدم الحقيقي بمحطاته الأربع، متمثلة بالديمقراطية والعالمانية والعلم والعقل. الديمقراطية بجوهرها الرئيس، الذي من دونه تتحول إلى ديكور دعائي خادع، ونعني التبادل السلمي للسلطة السياسية في انتخابات حرة ونزيهة. أما العلمانية، فتنهض على أساس إخراج الدين من ملعب السياسة ووضعه في مكانه الصحيح، كشأن معتقدي تعبدي خاص مكانه دور العبادة فقط. ليس من مهام الدين بناء الدول، ومن يعتقد بذلك فإنما يراهن على أوهام ويلاحق سراباً. فالكتب المقدسة ليست مؤلفات في السياسة، وبناء الدول، وتحقيق التنمية، بل نصوص يتعبد بها المؤمن. لهذا وُجِدت، ولا دور لها سواه.
على صعيد العلم، وكما حدَّده غاليلو، فالمقصود العلم القائم على الاختراع والاكتشاف والإبداع. وهو بهذا المعنى أرقى منتجات العقل، وبالذات عندما يكون هذا الأخير مناط الحكم على الأشياء وليس النص الديني. هذا هو طريق النهوض والتقدم باجتهادنا، كما تعلمنا تجارب المتقدمين، ولسنا من طينة مختلفة عن باقي البشر. انتهى زمن الحزب القائد، والزعيم الأوحد فريد عصره الذي لم تلد النساء مثله، وأحالت تحولات العصر النظرة الأحادية إلى متحف التاريخ.
من هذا المنظور وبناء على قراءة واقعنا العربي، نرى أن دولة الحاضر العربية أخفقت، واصطدمت أنظمتها الاستبدادية بمختلف مسمياتها بالحائط. أنظمة أفلست على الصُّعُدِ كافة، وأهمها على الإطلاق إخفاقها في بناء دول مدنية حديثة لكل مواطنيها، وتحقيق معدلات تنمية ترتقي بمستوى معيشة الإنسان العربي. وثالثة الأثافي، إخفاقها الذريع في تحرير الأرض المحتلة ومواجهة العدو الصهيوني.
وليس يفوتنا الإشارة في السياق، إلى أن الدعم الخارجي لا يحمي نظاماً سقط بنظر شعبه، والدول العظمى وكذلك الإقليمية، يهمها أولاً وأخيراً مصالحها، ولها دائماً حساباتها الخاصة. ولا شرعية بمعايير العصر إلا لصناديق الاقتراع، في انتخابات حرة نزيهة.
تأسيساً على ما تقدم، فإن الذي سقط في سوريا يوم الثامن من كانون أول 2024، هو ذاته الذي سقط عام 2011 في تونس، وبعده في مصر، وفي ليبيا، وفي اليمن. ولا نرى الدول العربية الباقية أفضل حالاً. مقصود القول، دولة الحاضر العربية مأزومة، تتخبط في أزماتها. ولن نتقدم إلا بما تقدم به غيرنا، كما أنف بيانه قبل قليل.
ليتنا نتعلم مما حصل وما تزال فصوله تتوالى، ونرتقي بمستوى أنماط تفكيرنا ووعينا بشروط الحاضر، انطلاقاً من حقيقة أن الثابت الوحيد في الحياة هو التغيير.
على صعيد أنماط التفكير، وخاصة بعد الزلزال السوري، نقرأ ونسمع الكاريكاتيري منها، الذي يتوهم امتلاك الحقيقة لكنه يثير الشفقة ويدعو إلى الرثاء. فهناك من سارعوا إلى الحسم والجزم بأن سوريا بين ليلة وضحاها، انقلبت من كونها قلب العروبة النابض لتصبح جزءاً من المعسكر الصهيوأميركي العثماني. وهناك من قرر أن سوريا سوف تُقسم إلى ما لا يقل عن خمس دويلات، والمخططات جاهزة!
لنجاري هذه الرؤى، والثانية خاصة. هنا، نستحضر تأكيد الكرملين، أن القيادة الروسية فوجئت بما حصل في سوريا بتلك السرعة. وقد طلب الرئيس فلاديمير بوتين معرفة أسباب إخفاق الاستخبارات الروسية في توقع نهاية النظام السابق في سوريا، قبل فوات الأوان. ويمكن الرجوع إلى ذلك في الفضاء الأزرق، بمساعدة مؤشر البحث غوغل. وعليه، إذا روسيا دولة عظمى، ولها قواعد عسكرية في سوريا وتتوفر على إمكانات استخبارية ومصادر معلومات هائلة، تعلن على الملأ بأنها فوجئت بما حدث، فمن أين تَحصَّل «بعضنا» على مخططات تقسيم سوريا، وبأي منطق، وعلى أية أسس يقرر أنها أصبحت جزءاً من المعسكر الصهيوأميركي العثماني بين عشية وضحاها؟!!!
على هذا الصعيد، دعونا نحاكم الأمور بما نعتقد من زاويتنا أنه يندرج في إطار المنطق وطبائع الأشياء.
لنفترض، لا سمح الله، أن تقسيم سوريا صار حقيقة وتحولت إلى خمس دويلات، فكيف تعيش هذه الدويلات وتستمر، وكل منها لا يملك مقومات دولة أصلاً؟! هذا التقسيم المفترض سيشعل فوضى لا أولَ لها ولا آخر. وما يحصل في الجغرافيا السورية عبر التاريخ، سينتقل إلى جوارها قطعاً وينعكس على المنطقة كلها. إذن، فوضى «الدويلات السورية» ستنتقل إلى الأردن بالتأكيد، وإلى لبنان قطعاً، وإلى تركيا من دون شك، وإلى باقي المنطقة لا محالة. ومن الذي يضمن حينها ألا يكون الكيان اللقيط المزروع في فلسطين أول الضحايا، مما يضطر أميركا وغربها الأطلسي إلى التدخل؟! وهو ما سيستدعي بدوره تدخل قوى دولية، مثل روسيا والصين، أقله بحكم المصالح. إذن، النتيجة صدام بين قوى دولية نووية نتائجه معروفة. فهل يُعقل أن من يفكرون بتقسيم سوريا لا يخطر ببالهم هذا الذي ذكرنا؟!!!
نحن على قناعة راسخة بأن الكيان اللقيط يعمل بدأب لإيذائنا وإضعاف بلداننا، ولكن إلى الحد الذي يناسبه ولا يشكل خطراً وجوديّاً عليه.
مرة ثانية، ليت البعض منا يرتقي بمستوى أنماط تفكيره ويوسع مداركه، في عصر سريع التحول والإيقاع. من هنا، نرى أن بمقدورنا إضافة بعض أنماط التفكير إلى قائمة المشمولين بالسقوط في سوريا، وعلى وجه التحديد تلك الضحلة المنبعثة من ضيق الأفق والمنطلقة من العواطف والرغائب. ونختم بحقيقة مُرَّة، مؤداها أن بعضنا يقع في شَرك تصوير أميركا واسرائيل وكأن ما تسعيان فيه وما تخططان له قَدَرٌ لا راد له. ولقد تأكد خَطَل هذا الوهم، بأدلة فاقعة لا يشك بها شاك ولا يجادل بها مجادل.