سابعًا، التربية القومية والبناء الثقافي:
أكد أنطون سعاده في كتاباته ومحاضراته على أهمية الثقافة والتربية كشرط أساسي لتحقيق النهضة القومية الاجتماعية. فقد رأى أن بناء جيل مثقف وواعٍ ومتحرر من مشاعر القهر والكبت والنقص والخوف والعجز والاتكالية والرضوخ هو السبيل الوحيد لتطبيق مبادئ النهوض وضمان استمرارية النهضة.
أ – التربية القومية: تحتل التربية مكانة محورية في مشروع النهضة القومية الاجتماعية كما تصوره أنطون سعاده، حيث تُعدّ التربية القومية الصحيحة الأساس لبناء الإنسان الجديد والمجتمع القومي المتماسك. فالتربية عند سعاده ليست مجرد تعليم أكاديمي، بل هي عملية شاملة تستهدف إعداد الأجيال بطريقة منهجية تستهدف تلقينهم العلم الصحيح ومناقبية النهضة وقصص من تاريخ الأمة القديم والحديث وإرشادهم إلى الحقيقة، وتطوير تفكيرهم العلمي والنقدي، “فينشأون جيلاً جديداً، قوياً، خالصاً من أدران حياة الذل والقناعة بالباطل، سالكاً في طريق حياة الحرية والواجب والنظام القوة.”[1]
ويرى سعاده أن التربية القومية هي التي تبني العقول المبدعة وتعزز الوعي العلمي والثقافي، مما يساعد على بناء مجتمع متماسك يتسم بالوعي والاستقلالية والقدرة على التفكير الحر. إن تأكيد سعاده على التربية القوميّة الصّحيحة الخالية من المبادىء العنصريّة والطّائفيّة، والقائمة على الحقائق والعلم الصّحيح، يتجلى في إصراره على أن النهضة القومية يجب أن تبدأ مع الأجيال الناشئة، وتركز على بناء شخصية اجتماعية واعية وقادرة على التفكير المستقل والمشاركة الفعالة في حياة الأمة. هذه التربية ينبغي أن تزرع في النفوس قيم التعاون والصراحة والحرية، وتنمّي الوجدان القومي والقدرة على تحمل المسؤولية تجاه المجتمع والمشاركة الفعّالة في تحقيق الأهداف القومية.
في محاضرته في مؤتمر المدرسين، أكد سعاده على أهمية العمل مع الأحداث لضمان مستقبل مشرق ومستدام للأمة واعتبر ان هدف التربية هو بناء الشخصية القومية للأفراد منذ الصغر، بحيث يتم تأهيلهم ليصبحوا أشخاصاً متحررين من النزعة الفردية السلبية ومن مشاعر الخوف والنقص والاتكالية ومتسلحين بالقيم المثالية والإرادة الصلبة والوعي القومي العميق. فالتربية القومية تسعى إلى غرس قيم الثقة بالنفس، والاستقلال، والقدرة على الابتكار والتفكير الخلاق، مما يساعد في تكوين عقل إرادي ناضج قادر على مواجهة التحديات ومستعد لتحمل المسؤوليات والعمل من أجل الصالح العام. لقد آن الأوان، يقول سعاده، “أن ننشىء لأنفسنا تربية قومية مؤسسة على الـمبادىء الشعبية الصحيحة التي تقوي فينا روح احترام النفس والثقة بالنفس، وأن نوجد لأمتنا مركزاً محترماً بيـن الأمـم القريبة والبعيدة، وأن نحقق نحن بأنفسنا مطلبنا الأعلى الذي نفتخر بأنه يـمثّل مزايانا الـخاصة بكل ما فيها من الروح السليمة والـمدارك العقلية العالية ونـجعله منارنا الـخاص الذي يهدينا إلى ما فيه فائدتنا وفائدة البشرية جمعاء.”[2]
ومن خلال كتاباته بمكن الاستنتاج انه لا يمكن فصل التربية عن الثقافة، فكلاهما يعزز الآخر لبناء الشخصية القومية. وكلاهما يستهدفان محاربة الجهل وتوليد الوعي القومي، تصحيح الانحرافات، إحياء المناقب الجميلة وترسيخ الفضائل.
إن الاستثمار في التربية القومية هو الطريق لبناء مجتمع حرّ، متماسك، وخلاّق. فهي الأساس لتكوين شخصية متوازنة قادرة على مواجهة تحديات العصر بثقة وإرادة. والتربية الصحيحة لا تقتصر على اكتساب المعرفة، بل تشمل أيضًا التنشئة الأخلاقية والفكرية التي تُعدّ الأفراد لتحمل مسؤولياتهم تجاه المجتمع والأمة وتهدف إلى إصلاح المجتمع وإطلاق طاقاته وتوجيهه نحو تحقيق أهدافه الكبرى ومثله العليا.
ب- البناء الثقافي: في رؤية أنطون سعاده للنهضة، يشكّل البناء الثقافي الأساس الضروري لإيقاظ الأمة وتوجيهها نحو التقدم. فالثقافة هي الأساس الذي يُبنى عليه العمل النهضوي، وذلك لأنها تُعزز فهم الواقع وتُمكّن الأمة من إدراك مشكلاتها وحقائقها. من خلال الثقافة يمكن تحقيق يقظة الشعب ووعيه بقضاياه الأساسية، مما يسمح له بالتغلب على التحديات والانقسامات الداخلية.
بالنسبة لسعاده، الثقافة القومية هي وسيلة فعّالة لمواجهة التحديات الفكرية والعقائد الرجعية والانحطاطية التي تُعيق تقدم المجتمع. من خلال التثقيف العميق، يمكن تحرير النفوس من الأفكار البالية التي تُرسخ حالة التبعية والاتكالية والخضوع، والإسهام في بناء الشخصية القومية الواعية المؤمنة بقدرتها على صنع التغيير والمشاركة الفعّالة في بناء الأمة.
ويرى سعاده في الثقافة القومية وسيلة لإحياء القيم النبيلة ومحاربة الجهل والفساد والعصبيات و”تقويم الإعوجاج وتوجيه قوى الحياة نحو الأفضل”.[3] فلا قيمة للثقافة إن لم تكن فعلاً تغييرياً غايته سحق المثالب الانحطاطية وإحياء المناقب الجميلة في حياتنا وتجويد هذه الحياة وتنزيهها من كل معطّلات نموها وتطورها. ولا قيمة للثقافة إن لم تكن فعلاً يبني النفوس ويصقلها وعياً وتهذيباً ومناقب ويحقق “تأليف القلوب وجمع فئات الأمة في مطلب واحد وعقيدة واحدة.”[4] باختصار، يجب توظيف الثقافة في سعينا لإقامة الحياة الجميلة الراقية، وبهذا الاتجاه، يقول سعاده إن “قصد الثّقافة أو التّربية هو دائماً تقويم الاعوجاج وتوجيه قوى الحياة نحو الأفضل.”[5]
منذ تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي، أشار سعاده إلى ضرورة وضع الثقافة في مقدمة الجهود النهضوية، لأنها تعكس الصراع الأساسي بين عقيدة قومية اجتماعية جديدة وعقائد رجعية قديمة. هذا الصراع ليس فقط سياسيًا أو اجتماعيًا، بل هو صراع فكري يهدف إلى بناء نفسيات أصيلة تتجاوز الجمود والانحطاط، وتتبنى مبادئ الحياة الجديدة. ولذلك، اعتبر سعاده معركة الثقافة حربًا مقدسة تتطلب تنظيم الصفوف والتخطيط الدقيق. وقال: “إنّ حرب العقائد الّتي أعلنّاها نحن حين أعلنّا تعاليمنا السّوريّة القوميّة الاجتماعيّة تتطلّب منّا جعل قضيّة الثّقافة في مقدّمة القضايا الّتي يجب أنّ نوليها اهتماماً خاصّاً، وأن نخطّط لها الخطط ونرتّب الصّفوف.” [6]
في إطار هذا الفهم لأهمية الثقافة، أنشأ سعاده الندوة الثقافية في خريف عام 1937، والتي كانت بمثابة مركز استراتيجي للأبحاث والدراسات الثقافية والفكرية. كانت الغاية من الندوة التعمق في دراسة التعاليم القومية الاجتماعية، وبعث التراث الفكري السوري، وتنمية الفكر العلمي والفلسفي. بعد عودته من المغترب القسري، أعاد تفعيل الندوة لتعزيز الفهم العميق للمبادئ القومية وتوسيع نطاق المعرفة لدى الأعضاء والمهتمين.
كما سعى سعاده إلى تعميم إنشاء الجمعيات الثقافية في مختلف المهاجر القومية، وكان الهدف منها ليس فقط وقاية الحركة، بل تنشيط العمل التثقيفي الذي اعتبره في أساس جميع الجهود النهضوية الأخرى.
في كتاباته، يشدَّدَ سعاده على أن الثقافة القومية الاجتماعية هي الضمانة لمناعة المجتمع ووحدته الروحية، وهي أيضًا القوة التي يمكن أن تظهر علل المجتمع وتواجه الغزو الثقافي الذي يهدف إلى تدمير الهوية وتشويه الوعي. ويرى أن الثقافة الحقيقية ليست انعزالاً عن العالم، بل هي تفاعل منهجي مع العلوم والمعارف الحديثة، وترتكز على فهم شامل للواقع وتستجيب له بأسلوب عقلاني.
دعا سعاده الأدباء والمفكرين والطلاب والمثقفين إلى التعبئة الفكرية الواسعة والإنتاج المعرفي بغرض مواجهة التحديات الثقافية والحضارية التي تعترض الأمة. وطالب “الطبقة المتعلمة المتنورة” ان تقوم بواجبها من تسديد مرامي شعبها وإعداد طرق حياته:
“نرى أنفسنا مضطرين إلى تخصيص الطبقة الراقية بأكبر قسم من الـمسؤولية في تقرير الـحياة القومية، لأنها عقل الشعب وقوّته التفكيرية. فعنها يجب أن تصدر الأفكار النيرة والآراء الصائبة، ومنها يجب أن تخرج الـمبادىء الصحيحة التي هي مصدر صحة الـحياة القومية. فإذا قامت الطبقة الـمتنورة بواجبها من تسديد مرامي شعبها وإعداد طرق حياته، كانت الـحياة القومية صحيحة وكان مطلب الأمة الأعلى جميلاً ذا قيمة عقلية عالية.”[7]
دعوة سعادة تستند إلى فهم أن الثقافة هي الأساس في بناء مجتمع سليم، يمكنه مواجهة الغزو الثقافي والفكري بثقة وإبداع. ورأى سعاده أن نجاح الأمة في مواجهة هذه التحديات مرتبط بمدى قدرتها على تطوير ثقافة قومية متماسكة ومنفتحة.
بالخلاصة، يعتبر أنطون سعاده أن البناء الثقافي هو أساس مشروع النهضة، حيث يساهم في وعي الأفراد وقدرتهم على التفكير النقدي والإبداع، ويربط بين التراث الأصيل وتطلعات المستقبل. ويرى أن الثقافة هي قوة حضارية للتغيير والتحرر، تُمكن الأمة من مواجهة التحديات الفكرية والثقافية ومن تعزيز هويتها في مواجهة الغزو الثقافي. في مواجهة ثقافة الضعف والخوف والتسكع وفقدان الثقة بالنفس والاتكالية والخنوع والاستسلام يدعو سعاده إلى تعبئة فكرية ومقاومة كل ما يسعى إلى تدمير الهوية وترسيخ الجهل والتفرقة وتخبّط المجتمع بالقبائح والرذائل وبقضايا التفكير الانحطاطي وانغماسه في الشعوذة والغيبيات، مؤكدًا أن نجاح الأمة يتوقف على وعيها الاجتماعي وتسلحها بثقافة قومية نهضوية تفعل فعلها التنويري والتغييري داخل المجتمع وتسير به نحو التقدم والانتصار.
[1] أنطون سعاده، المجلد الثامن 1948 – 1949، محاضرة الزعيم في مؤتمر المدرسين- توجيه المدرسين.
[2] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الأول 1921 – 1934، “عصران يتصارعان – مبادئ أساسية في التربية القومية”،
[3] سعاده، الإسلام في رسالتيه، الطبعة الرابعة 1977، ص 73.
[4] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد السادس 1942-1943، “خطاب الزعيم في العيد القومي”.
[5] أنطون سعاده، الإسلام في رسالتيه، الطبعة الرابعة 1977، ص 73.
[6] محاضرة الزعيم في مؤتمر المدرسين، النظام الجديد، المجلد 1، العدد 5، يوليو/ تموز ـ أغسطس/ آب 1948.
[7] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الأول 1921 – 1934، “التفكير العملي والاصلاح الاجتماعي”، 1/04/1933.