تعتبر معركة المالكية من أهم المعارك التي خاضها الجيش اللبناني، كما المفرزة اللبنانية المنضوية تحت لواء جيش الإنقاذ التي كانت بقيادة الملازم أول الرفيق محمد زغيب. وقرية المالكية تقع شمال مدينة صفد في فلسطين وعلى بعد نصف كيلومتر من الحدود اللبنانية، وكانت حتى العام 1923 تابعة للبنان، عن الجزء الرابع من الموسوعة الفلسطينية، هذه النبذة عن معركة المالكية.
ليلة 14-15 أيار تحركت الكتيبة الأولى من اللواء اليهودي « يفتاح » وتمكنت من احتلال قرية قدس والمعسكر البريطاني خارج المالكية، وقرية المالكية نفسها، ولم يكن يدافع عن تلك المنطقة سوى عدد قليل من عناصر جيش الإنقاذ على رأسهم الملازم الرفيق محمد زغيب الذي كان يقود المفرزة اللبنانية. وقبل أن يعزز قائد الكتيبة الصهيونية مواقعه المحتلة، دفع العقيد الرفيق أديب الشيشكلي – قائد قوات جيش الإنقاذ في الجليل – بمفرزتين من قواته تعاونتا مع وحدة من الجيش اللبناني للقيام بهجوم معاكس قوي أجبر القوات الصهيونية على الانسحاب من المنطقة كلها بعد أن خسرت عدداً كبيراً من رجالها، وبذلك تمّ استرداد المالكية والمعسكر وقدس. غير أن القوات اليهودية استطاعت إعادة التجمع والتنظيم وتعزيز ملاكها وأسلحتها وبدأت تستعد لاسترداد المالكية، لا سيما أن « القائد العام للقوات العربية » في عمان عدل الخطة السابقة التي كانت تحدد دخول القوات الشامية إلى فلسطين من الحدود اللبنانية، وحدد لهذه القوات محور «سمخ»، وهكذا لم يبق في الشمال سوى وحدات جيش الإنقاذ والجيش اللبناني الذي كلف الدفاع فقط بموجب التعديل الذي أدخل على الخطة.
ليل 19 أيار تحركت قوة إسرائيلية معززة بالمدرعات إلى داخل الأراضي اللبنانية وقامت بالتفاف باتجاه المالكية من داخل الأراضي اللبنانية. ونجح العدو في مفاجأة المالكية واحتلالها رغم المقاومة العنيفة التي أبدتها القوات المدافعة عنها، كما احتل «قدس» ونسف كافة الجسور المؤدية إلى تلك المنطقة، سواء من الأراضي اللبنانية أو الشامية.
قام قائد قوات جيش الإنقاذ فوزي القاوقجي بتجميع قواته، وقد الحق به فوج لبناني معزز بالدبابات بقيادة المقدم جميل الحسامي، وفوج البادية، بقيادة المقدم طالب الداغستاني، وعدة سرايا مستقلة وبطاريتي مدفعية.
تقرر أن يكون الهجوم يوم 6 حزيران الساعة الواحدة والنصف ظهراً لمفاجأة العدو الذي تعوّد انتظار الهجوم عند الفجر، وقد طلب القاوقجي مساعدة الطيران الشامي في استطلاع المنطقة بكاملها فاستطاع بذلك أن يعرف بدقة مواقع القوات الإسرائيلية ودرجة تحصينها ومناطق تجمع احتياطها.
وفي الوقت المحدد للهجوم بدأت مدفعية جيش الإنقاذ تصب نيرانها على مواقع العدو بينما تحركت قوات الهجوم نحو أهدافها. ودارت معارك عنيفة بين الجانبين، فيما الطيران الشامي يقوم بدوره في القصف والاستطلاع. لم ينته النهار حتى كانت المالكية قد استعيدت، وفي اليوم التالي تمّ استعادة قدس وتطهير المنطقة بكاملها من القوات المعادية. تميزت معارك المالكية بعنف القتال والتعاون الجيد بين قوات جيش الإنقاذ والجيش اللبناني والطيران الشامي.
في معركة المالكية استشهد الرفقاء: الملازم محمد زغيب، سليمان الملحم (من القريا، منطقة السويداء) وسعيد ملاك (من نيحا الشوف).
*
الرفيق الشهيد النقيب محمد زغيب
من سيرة الرفيق الشهيد محمد سعيد عقل زغيب.
«الرابعة بعد ظهر الجمعة 14 أيار 1948، رن جرس الهاتف في منزل على بيشاني في طرابلس. على الخط صوت جندي:
– الملازم أول محمد زغيب يود التكلم مع زوجته.
هرع علي ينادي ابنته الحبلى كي تكلم زوجها. وما ان أخذت السماعة حتى جاءها صوته عاشقاً لهيفاً:
- خاسينتا كيف تشعرين؟( زوجته مولودة في الارجنتين )
- لا جديد. ولست أشعر أنني سأضع المولود اليوم.
- إذا شعرتِ بآلام المخاض اتصلي بي فأحضر حالاً. الوضع اليوم على الجبهة هادئ. ويمكنني أن أترك لبعض الوقت فأجيئك إلى طرابلس كي أرى مولودنا الجديد. انتبهي إلى حالك يا خاسينتا. أحبك كثيراً. وانتظر خبراً منك.
أقفلت خاسينتا الهاتف، شاعرة بنبض الجنين في أحشائها، وبحب زوجها يغمر قلبها الطري، هي ابنة العشرين ربيعاً، والمهيأة أن تصبح أماً للمرة الثالثة، بعدما ولدت بنتاً لم تعش سوى ستة أشهر، ثم صبياً توفي في يومه الثالث.
ودخلت غرفتها ضارعة إلى الله أن يجعلها تضع هذه المرة مولوداً يعيش كي يفرح به والده الضابط البطل.
في حوالي العاشرة ليلاً، كان على بيشاني يحمل ابنته إلى مستشفى عبد الوهاب في طرابلس (المينا) بعدما ازدادت عليها آلام الوضع. ومع انتصاف الليل (14-15 أيار)، كانت الدكتورة مي عبد الله سعاده تجري عملية التوليد وتحمل على زنديها بنتاً صرخت صرختها الأولى في هذه الحياة، بينما استيقظ الملازم أول محمد زغيب على صوت مساعده يحذره بأن « العدو فاجأنا بهجوم صاعق» .
وبالسرعة المطلوبة لصد الهجوم، كان الضابط البطل يعطي أوامره ويدير المعركة. غير أن هذه لم تكن متكافئة القوى: شعر الإسرائيليون أن في المالكية قوة مقاتلة، على رأسها ضابط غير عادي، فجيّشوا لمعركتهم جحافل مؤللة وراجلة، وهجموا بضراوة وشراسة.
وفي السادسة صباح السبت 15 أيار: كانت رصاصة تستقر في صدر محمد، فيسقط مضرجاً بدمائه.
وفيما مستشفى عبد الوهاب – طرابلس يستقبل المهنئين بالمولودة الجديدة، جاء الخبر عن الجبهة: محمد أصيب، حالته تدعو إلى القلق، وهو في مستشفى صور.
بعد ساعتين، كان والد زوجته على بيشاني يقف الى جانب سرير صهره محمّد في مستشفى صور. وإذا بالضابط المصاب يبتسم من بين أوجاعه:
- الحمد لله، سنسميها «جهينة». لو جاءنا صبي كنت سأسميه «جهاد». سلم لي على خاسينتا، ولا تقل لها أنني مصاب عساي بعد أسبوع أتعافى أكثر وأجيء إلى طرابلس، أقبلها، وأرى جهينة.
عصر الأحد 23 أيار، كان مأتم مهيب بكت فيه بلدة يونين البعلبكية ابنها الشهيد، وبكاه معها كل من عرفه، أو سمع عنه، أو عن مزاياه التي كانت فريدة بين الرجال.
*
يونين تتذكر الأسطر الرئيسة من حياة فقيدها الذي شيعته وهو لم يبلغ الرابعة والثلاثين.
ويكون محمد نبيهاً منذ طفولته، فيلتحق بمدرسة المطران في بعلبك، ثم بالمدرسة الوطنية في عالية، فالكلية العلمانية في بيروت. وفي المدارس الثلاث، برز متميزاً في علاماته وأخلاقه.
كان في الثالثة والعشرين (1937) يوم دخل المدرسة الحربية، متخرجاً منها بعد سنتين (1939) مرشح ضابط.
بدأ مهماته العسكرية بدينامية لافتة. وإذ عين القيادة ساهرة على عناصرها، رقّته (1941) إلى رتبة ملازم.
كان قائداً لموقع الدامور حين اعتقلت سلطات الانتداب رئيس الجمهورية بشارة الخوري وصحبه في قلعة راشيا (تشرين الثاني 1943). فاتصل الضابط النبيل محمد زغيب بحكومة بشامون الوطنية واضعاً نفسه وجنوده في خدمتها. وحفظ له القادة اللبنانيون هذه البادرة، فلم يكد استقلال لبنان يعلن، حتى أعلنت قيادة الجيش ترقية محمد زغيب إلى رتبة ملازم أول (1944). وينال في 22 تشرين الثاني 1945 وسام الجهاد اللبناني.
1948 تندلع الحرب الفلسطينية، ويتم تعيين الملازم أول محمد زغيب ضابط ارتباط في القيادة العامة للجيوش العربية. غير أن دمه الثائر أبى أن يبقيه إدارياً في مكتب. شعر بالحاجة الجارفة إلى الالتحاق بالجبهة مع رفاقه. قدم استقالته من وظيفته الإدارية، وتطوع (12 نيسان 1948) لقيادة سرية من المقاتلين المتطوعين مثله، فخاض معارك مشرفة انتصر فيها على العدو، وأبرزها (أول أيار 1948) معركة الهراوي التي احتل فيها المواقع الأمامية برغم صعوبة المهمة… ولمع نجمه بين رفاقه الأبطال في جيش لبنان.
النائب اللبناني (فيما بعد) معروف سعد، روى هذه المعركة في مذكراته، وكان يومها في مطلع شبابه:
« أتذكر روح قائدي وأخي ورفيق جهادي الشهيد النقيب محمد زغيب. كان لقائي به، بعد الدراسة، في ربيع 1948، وجحيم المعركة في أرض فلسطين ينذر بكارثة مروّعة. كنا في جنوبي لبنان على مرمى حجر من أرض المعركة. وتجمّع الفدائيون من لبنان: من بعلبك والشوف وقرى الجنوب وصيدا، يرفضون تقسيم فلسطين. وكنّا يومها في حاجة إلى من يقود جموع الفدائيين في أرض المعركة. والتقينا الملازم أول محمد زغيب الذي استأذن قيادة الجيش اللبناني للقيام بهذه المهمة. ثم انتقلنا مع البطل إلى أرض المعركة، وخضنا مع العدو معارك ضارية كبّدناه فيها خسائر كبيرة.
اتخذ البطل مركزاً لقيادته في المالكية (قرية فلسطينية حدودية قريبة من عيترون اللبنانية). وبعدما هال العدو ما كبدناه من خسائر، قرر ضباط العدو الانتقام بشراسة وضراوة وحشيتين من الفرقة اللبنانية وقائدها الشجاع، فهيأوا هجوماً كبيراً خاطفاً على المالكية، وزحفوا علينا ليلة الخامس عشر من أيار. تنبه حراسنا الشجعان ودافعوا ببسالة، ووزع القائد جنوده بحكمة وإحكام. لا أزال أذكر الشهيد علي فرج، وكان متطوعاً معنا وهو في الخامسة والسبعين من عمره، يضحك كلما أصاب إسرائيلياً وأرداه، ويقول لي: «اشهد يا معروف… هذا واحد… اثنان… ثلاثة…» حتى أردى منهم سبعة، ثم أصابته رصاصة أسكتت مدفعه، فاقتربت منه ورأيته قد نام على مدفعه مبتسماً من سقوطه شهيداً في ساحة المعركة.
كان ذلك نحو السادسة صباحاً. وفيما أنا واقف قرب جثة علي، سمعت صوتاً ينهرني:
- معروف، خذ مكانك، أنا ذاهب من هنا.
التفت ورائي فإذا به القائد الحبيب يترك مركز قيادته، مدفعه في يده، ويذهب ليأخذ مكانه بين الجنود. خفت عليه، هرعت أقنعه بالعودة إلى مركز قيادته وألاّ يعرّض حياته للخطر فنحن في أقصى الحاجة إليه. لكنه لم يستمع إلي.
ولم يمر الوقت حتى أصابته رصاصتان من نوع «دمدم»: أولى في رأسه قرب الدماغ، والأخرى في صدره جهة القلب، مزّقت صورة لزوجته كان يحتفظ بها قرب قلبه. لم أستطع سحبه من أرض المعركة. عرضّت أن أحمله وأذهب به، فرفض. قال لي: «هيّئ لي مسدسي، إذا داهمنا العدو هنا، أطلق رصاصة على رأسي فلا يبلغونني إلا ميتاً. الضابط اللبناني يموت قبل أن يستسلم للعدو». واختبأنا على البيدر وراء القش وقتاً طويلاً وهو ينزف بشدة ولا يبدو عليه الضعف، إلى أن خارت قواه.
ومع ساعات الهدنة الأولى، حين جاءت قوة لنقله إلى مستشفى صور، فتح عينيه المتعبتين وقال: «لا تتركوا المالكية، احتفظوا بها. لا تسجلوا عاراً على فرقة كنت أقودها».
جميع هذه الصور، مرت ببال يونين وهي تودع ابنها عصر ذاك الأحد الحزين، وعلى نعشه وسام الحرب ووسام فلسطين.
وكرمت قيادة الجيش اللبناني شهيدها البطل، فأصدرت أمراً بترقيته إلى رتبة نقيب ابتداءً من 15/8/1948، وفي
25 أيار 1948: صدر عن قائد الجيش فؤاد شهاب «أمر عام رقم1» يمنح بموجبه وسام الأرز من رتبة فارس الى الرفيق الشهيد محمد زغيب.
وأطلقت القيادة اسمه على ثكنة النهر (الجعيتاوي) وفي صيدا، وعلى إحدى بنايات المدرسة الحربية في الفياضية. كما أطلقت اسمه على دورة الضباط المتخرجين عام 1949.
***
الرفيق المحامي نعمة حمادة كان من الذين تطوعوا للقتال في «معركة المالكية» وصدف أنه كان على مقربة من الرفيق الملازم محمد زغيب وشهد إصابته. على رأس قوة من المتطوعين في جيش الإنقاذ، مبدياً إعجابه بالطالب الصغير السن الذي لم يسبق له أن حمل السلاح، ومع ذلك يغادر مدرسته وبيته للالتحاق بجيش الإنقاذ.
***
من الرفقاء الذين شاركوا في «معركة المالكية»، الأمين ديب كردية، والرفقاء محمد مصطفى العاشق، أحمد مهدي نزهة، محمد حسن طي وقاسم العفي الذين كانوا التحقوا بالجيش اللبناني في الفترة 1946-1947،
قرية المالكية
تقع شمال مدينة صفد، على بعد نصف كيلومتر من الحدود اللبنانية – الفلسطينية. كانت حتى عام 1923 تابعة للبنان.
أنشئت المالكية في جبال الجليل الأعلى فوق سفح يطل على الغرب ارتفاعه 690 متراً عن سطح البحر. قام اقتصاد المالكية على الزراعة وتربية الماشية، واعتمد السكان في الشرب والأغراض المنزلية على مياه الأمطار التي كانت تجمع في الآبار.
بعد أن احتلها اليهود وشردوا سكانها ودمروها أقاموا في العام 1949 كيبوتز «ملكياه» جنوب شرق القرية.
(عن الموسوعة الفلسطينية – الجزء الرابع)
هوامش:
- يفيد الرفيق نعمة حمادة عن معركة المالكية ان اصابة الرفيق محمد زغيب لم تكن بليغة بدليل انه سار على قدميه بعد ان تم سحبه من موقع المعركة، برفقة من جاء لنجدته، وكان يتكلم ويصدر الاوامر. ويذكر انه اصيب في المستشفى بالتهابات، ولو ان المستشفى كان مجهزاً، لما كان فارق الحياة، برأيه.
لجنة تاريخ الحزب