اللامركزية الامنية : انحلال الدولة  

نشأ الامن منذ نشوء الانسان على الارض متدرجا من الحالة الفردية في بدايات التاريخ الى الامن الجماعي المتمثل بالعشيرة والقبيلة مرورا بالدولة / المدينة ، وصولا الى الدولة المدنية الحديثة التي تحمل على عاتقها امن المواطنين والمؤسسات التابعة وحماية الحدود والثروات الظاهرة والباطنية الموجودة ضمن النطاق الحقوقي السياسي المعترف به دوليا .

وعليه يمكن الملاحظة ان التقدم المدني للدولة يرتبط اضطرادا بالمركزية الامنية ضمن اطار تقاسم الوظائف داخل المجتمع / الدولة الذي تتشكل منه  . والامن بالمراحل المتقدمة  هذه ،  لا يقتصر على القوة العسكرية بل يتزاوج مع الامن الغذائي والامن الاجتماعي الاقتصادي بشكل عام وحتى الامن الثقافي الحضاري .

يبدو ان الدولة في لبنان تسير بعكس منطق التاريخ ومنطق التقدم والترقي نتيجة للتناقضات الموروثة للشرائح المكونة منها ، ونتيجة طبيعية للتنازلات الدرامتيكية عن دورها تحت وطأت الضرورات ” الميثاقية ” وموجبات التوازن الداخلي .

فالدولة تخلت منذ تأسيسها عن دورها الانمائي في الاطراف لصالح المجموعات المركنتيلة والريعية في المركز ، ثم عادت وتخلت عن دورها في الدفاع عن الحدود في مراحل متعددة لاحقة ، واتخذت مواقف غير محايدة في جميع الاضطرابات والحروب الداخلية والازمات الاقتصادية بل كانت سيفا يشهر في وجه المهمشين والمحرومين والفقراء ، واستمرت  اداة تنفيذية في يد كارتيلات النهب العام ، وهذا ما جعلها مكبلة اليدين في مواجهة الفساد والمسارات الاصلاحية حين طرحت هذه المسائل على بساط البحث .

وامعانا في الفشل ، تتغاضى الدولة الان عن طروحات اللامركزية الامنية التي تعلنها بعض المجموعات التي تقوم ايديولوجياتها على التقسيم والفدرلة  والمتناغمة مع  مشروع اللامركزية الادارية  المطروح من قبل السلطة تحت مظلة تسهيل معاملات المواطنين ، في زمن اصبح فيه التأليل والمكننة يلعب دورا متسارعا في تقريب المسافات وتقصير الاوقات . اضف ان لبنان بمساحته القليلة لا يستوجب هذا الاجراء بالمقارنة مع الدول ذات المساحات المترامية . وبالتالي ان تعزيز التأليل والمكننة يخفض كلفة القطاع العام القائم على زيادة الموظفين والمترتبات الملحقة .

لعل اخطر وجوه اللامركزية هو اللامركزية الامنية ، اوما بات يعرف بالامن الذاتي خاصة عندما يتجلبب طائفيا وايديولوجيا .

لقد ساهمت  الدولة  تشريعيا في تفاقم هذه الظاهرة حين رخصت للشركات الامنية ، وحين اوقفت التطوع بالجيش والقوى الامنية في ظل مشاريع الخصخصة ،وتخلت عن دورها ومركزيتها في ضبط الامن وسمحت بمواكب امنية للسفارات الاجنبية  وشخصيات ومسؤلين  محليين لا تمتثل للاجراءات المطلوبة . لقد عزز هذا الاتجاه استقدام عناصر من شركات امنية اجنبية للمرافقة والتدريب امعنت في ضرب الاستقرار ، وفتح ثغرات واسعة على مستوى الامن العام .

كما ساهمت الدولة بتشريعها لجمعيات اجنبية ومحلية  متظللة بعناوين انسانية وخدماتية  ادت لاختراقات عميقة في البنية الاجتماعية بتجنيد الالاف لصالح الدول الممولة ، فبتنا مكشوفين امامها امنيا حتى ادق تفاصيل حياتنا .

بالطبع ، ان مستوى التهديد هو المحدد الاساس لضرورات الامن وخاصة الامن الوقائي ، فالتهديد الوجودي لكيان الدولة هو غير التهديد او تصور التهديد لافراد او جماعات داخل الدولة مهما بلغ شانها . بمعنى ان التهديد الوجودي هو غير الصراع على السلطة ،  فالربط بين المسألتين يؤدي طبيعيا 

الى تشقق البنية الاجتماعية وتماسكها ، منتجا لحروب اهلية مهلكة تحلل الدولة وتميتها . وعلى هذه القاعدة ، لا يمكن اعتبار المقاومة في الجنوب او في اي مكان من اماكن تواجدها امنا ذاتيا بل هي جزء من الصراع لاجل بقاء الدولة وديمومتها . علما ان هذه المقاومة ظهرت لاعتبارات فشل الدولة في الحفاظ على اهلها وارضها وصون حدودها . بينما وحدات الامن الذاتي ومهما تغيرت تسمياتها وتبريراتها لا ترتقي  باي حال من الاحوال الى مستوى التهديد الوجودي .

ان تصدي الدولة للمخاطر التي تحاك ضدها في الدوائر الخارجية عبر التصدي للادوات والعملاء  وعناصر الامن الاستعلامي الاجنبي مع الاخذ على عاتقها حماية الشخصيات التي تعتبر نفسها مهددة بصورة او اخرى ، وتنظيم الاعلام وقوننته ، وجعله منبرا للعصبية الوطنية بدلا من العصبية الطائفية والمناطقية هي الطريق الاسلم للنجاة من شرنقة الحرب القادمة .

ان  عشرات الجيوش العاملة على الاراضي اللبنانية مع اجهزتها ومخابراتها وصناديقها الدرارة بالاموال واعلامها ودبلوماسييها لا يمكن ان تقوم بضبط الفلتان الامني  ولا تريد القيام بهذا الدور ، ولا يمكن ان تعزز مركزية الدولة ، فلكل منها مشاريعها واهدافها التي تصب في مصلحتها فقط على حساب ما تبقى من الدولة.

في الواقع ، نحن مرشحون لنيل المركز الاول بموسوعة جينز بعدد الجيوش التي تتقاسم الدولة واياها امننا . انها اكبر صحن سلطة امني .

رئيس المؤتمر القومي وليد زيتوني