نراهن على عراقة الشعب السوري

لا شيء يميز معادن الشعوب أكثر من التحولات التاريخية في مسارها، ونحن هنا نتحدث عن الوعي الجمعي وكيف يتصرف في الأوقات الصعبة. ومما يشار إليه بالبنان على هذا الصعيد، ما يُعرف بالتجاوز، أي التعالي على الصغائر والأحقاد الثأرية والنزعة الانتقامية، من أجل الأهداف الأسمى وفي مقدمها الحفاظ على وحدة الدولة وتماسكها.
من التعليقات على ما جرى ويجري في الشقيقة سوريا، أتوجه إلى الكثير من الصديقات والأصدقاء بضرورة التخلي عن عقلية داحس والغبراء، والنأي بالنفس عن البكاء على الأطلال.
شخصيًّا لم أفاجأ بما حصل في سوريا العزيزة، ولدي أسبابي وهي كثيرة وليست موضوع هذه العجالة على كل حال. هذا الذي حصل بتفاصيله لم يهبط فجأة من كوكب زُحل، بل له مقدمات وأسباب تراكمت عبر عقود من الزمن، تأدت إلى ما نرى ونشاهد على الشاشات. لا شيء في السياسة يأتي من فراغ، ولا شيء معلقًا في الهواء بمعايير التاريخ ومنطقه. كل شيء يبدأ في الواقع بأبعاده الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، وينتهي فيه متأثرًا به ومؤثرًا عليه. من هنا باجتهادنا يُفترض أن ينطلق النقاش، ويبدأ الحوار لإدراك ما جرى ويجري وتوقع مآلات الأمور. آن الأوان أن يرتقي العقل العربي بأنماط تفكيره، وهذا يشمل المدارس الفكرية كلها من دون استثناء. التكلس الفكري والجمود عند كليشيهات نظرية تقادمت وتجاوزها الزمن، أكثر آفات الفكر العربي بؤسًا في القرن الحادي والعشرين.
ولهذه الآفات تجلياتها بالطبع، ومنها ربط الدولة بشخص الحاكم أو الأسر والعائلات الحاكمة. هذا الربط ينهض دليلًا فاقعًا على عدم نضوج فكرة الدولة بمفهومها الحديث في الذهنية العربية، حيث الزمن للمتزمن فيه والمكان للمتمكن فيه، كما كرَّست الثقافة العربية ذلك عبر العصور. وعليه، لا غرابة ولا عجب أن مناهجنا الدراسية في مراحل التعليم المختلفة ما تزال حتى يوم الناس هذا متمسكة ب”أسرنة” الدولة على منوال الدولة الأموية…العباسية، دولة البويهيين، ودولة السلاجقة، ودولة المماليك…!
ومن آفات أنماط التفكير في واقعنا العربي اليوم في القرن الحادي والعشرين، تسييس الدين وتديين السياسة، ومطاردة وهم بناء دولة دينية. ليس مهمة الدين بناء الدول، ولا هذا دوره ولن يكون. ولم يشهد تاريخنا قيام دولة دينية أصلًا، بل ما حصل في تاريخنا السياسي وما تزال تبدياته شاخصة، هو توظيف الدين في خدمة أهداف السياسة لجهة تثبيت العروش وكراسي الحكم. الدين نصوص يتعبد بها المؤمن، مكانه دور العبادة، والكتب المقدسة ليست مؤلفات في السياسة وكيفية بناء الدول وتطويرها. وما اختلط الدين بالسياسة إلا وكانت النتائج كارثية. ولا أظننا بحاجة إلى إيراد ما يؤكد ذلك، لأن الأدلة معلومة أفاد منها ذوو الوعي والإرادة لبناء الدول الحديثة وتعلموا.
ولا أدري على أي أساس يسارع بعض الصديقات والأصدقاء إلى وضع سوريا، بعد التطورات الأخيرة في المعسكر الصهيوأميركي؟!!!
وهناك من سارع إلى حسم موقفه لجهة أن الكيان اللقيط دوره فاعل في كل ما حصل. هنا، لنا أكثر من قول، أولها أن كل من يغزل على هذا النول إنما يخدم الكيان ودعايته ويقع طائعًا في شباك حربه النفسية علينا. الكيان ليس خارقًا ولن يكون، وحتى أقرب أصدقائه وأهم داعميه بدأوا يدركون ذلك بعد السابع من أكتوبر ولا يخفونه بالمناسبة. وعلى فكرة، من يسارع إلى حسم موقفه بكلام من هذا القبيل تسبقه عواطفه، إنما يدين النظام الذي أصبح سابقًا، أراد ذلك أم لم يُرِده. باختصار، إذا الكيان تحقق له في سوريا هذا الحجم من الإختراق، فماذا كان يفعل النظام السابق على مدار 53 سنة هي مدة حكمه لسوريا؟!!
من الطبيعي أن يهتم العدو بتفاصيل ما يجري في دولة مثل سوريا، وكذلك القوى الإقليمية والدولية. ولكن ليس من الحِكمة ولا من الوعي الناضج، بل من السطحية والسذاجة تصوير كل ما يجري وكأنه بمشيئة الكيان اللقيط. للتذكير، حتى هذه اللحظة وبعد مغادرة رأس النظام سوريا، اللاعبون الأساسيون على الساحة السورية ليس أميركا داعم الكيان الرئيس، بل روسيا أولًا، وتركيا ثانيًا، وإيران ثالثًا. فلماذا التعامي عن حقائق فاقعة كهذه، على سبيل المثال لا الحصر، والقفز عنها إلى النفخ في دور الكيان؟!!!
بالمناسبة، القارئ لتاريخ سوريا، لا بد سيصل إلى نتيجة أن هذه الدولة العربية الشقيقة كانت ملاذًا لأحرار العرب في مختلف العهود، وبغض النظر عمن يحكمها. نراهن على الشعب السوري، وما يميزه من تمسك بعروبته وانتماء لأمته، وعلى عراقته في التاريخ وعلى مسرح الجغرافيا.
لا مستقبل لسوريا، إلا بوجهها العروبي المناهض لأعدائها وأعداء أمتها. ولا مستقبل لسوريا، إلا بالديمقراطية وجوهرها التبادل السلمي للسلطة السياسية، وبالعالمانية، وعمادها إخراج الدين من ملعب السياسة والتدخل في شؤون الإجتماع الإنساني نهائيًّا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *