انتصار من فم التنين

مفاجئ كان اتفاق الهدنة الذي أوقف القتال على جبهة الجنوب اللبناني، بعدما تعدت أيامها الستين يوماً. ومفاجئ أيضاً كان هزيمة جيش العدو برّاً أمام المقاومة حيث لم تستطع جحافل هذا العدو وألويته الخمس، إنجاز أي تقدم يذكر على الجبهة البرية رغم استخدامه دبابات «الميركافا» (فخر الصناعة الحربية للعدو) والتكنولوجيا المتطورة وطائرات أف 35 وكذلك الاستطلاع الحراري والذكاء الاصطناعي عدا دعم الناتو بالمال والسلاح بشكل منقطع النظير.

70 ألف جندي «إسرائيلي» مدجج بكل ما أسلف القول، واستطاعت المقاومة أن تصمد وتردع وحتى أن توجعه.

وكان انتقام العدو دوماً في الخطوط الخلفية أو على الحافة الأمامية من الجو، بتهديم البيوت وقتل الأبرياء وبلازمة «أدرعي» (ابتعدوا 500 م عن مراكز المقاومة). كانت عملية التدمير الممنهج تسير دون أي رادع إنساني أو قانوني للأحياء والأبنية السكنية والمدارس والمستشفيات ومراكز الدفاع المدني وصولاً إلى تدمير آثار وقلاع عمرها آلاف السنين وتحافظ إليها منظمة اليونيسكو (بعلبك ـ صور ـ شمع) وأسواق عريقة وأيضاً كنائس وجوامع وحسينيات.

من غزة إلى جنوب لبنان، النهج الدموي واحد لمجرم الحرب نتنياهو الذي كان قرار إدانته من المحكمة الجنائية الدولية أحد الأسباب الفعالة في دفع هذا السفاح إلى وقف النار في الجنوب، عدا ذاك الأحد العظيم الساخن الذي دفعت فيه صواريخ المقاومة لإلزام أربعة ملايين يهودي مستوطن إلى الانزواء في الملاجئ، كما ترك تدميراً كبيراً في انشاءاته في تل ابيب وكذلك في حيفا ومستوطناتها وأيضا المطلة ونهاريا. هذا، في حين كانت تصريحات العدو وأصدقائه تزعم القضاء على سلاح المقاومة، دون أن نغفل واقع جيشه المتعب من إطالة أمد الحرب عدا حالة الخلل لدى جنوده الرافضين للالتحاق نتيجة تهيبهم وهروبهم من قساوة المعارك وشجاعة رجال المقاومة وبأسهم.

وكان الذهول الأبرز بعد وقف النار الانتصار الذي أعلنته هذه المرة بيئة المقاومة وحاضنتها الشعبية، العودة، بأسرع مما كان متوقعاً. الرابعة فجراً أعلن وقف النار، بعدها بدقائق تدفقت الناس رغم برد الشتاء، إلى قراها ومنازلها ومن حيث استقرت مكرمة، وغادرت بعد تفاعل رائع بين كل فئات ومناطق لبنان، من الشمال إلى الجبل والى بيروت، فتجلى الانتصار البديع على رهانات أعداء المقاومة.

وعادت قرى الجنوب تمتلئ من جديد، بينما أهالي مستوطنات الشمال مذعورين وممتنعين عن العودة إلى مستوطناتهم.

كان جلياً الفرق، أهل الأرض يهجمون للموت في بيوتهم حالما أوقف القتال، بينما مستوطني الشمال ينتظرون الضمانات من نتنياهو نفسه، حتى انهم طالبوه بالتجرؤ على عقد جلسة في نهاريا!!

غضب أهل المستوطنات أظهر نتنياهو المنكسر المهزوم إزاء النصر الذي صنعته المقاومة وبيئتها، وقد يكون هذا سببا لعودة جيش العدو إلى الانتهاكات العسكرية، محاولة لاستعادة هيبته أمام شعبه، بينما قوات اليونيفيل تتفرج والجيش يراقب ويسجل الخروقات التي تعدت الخمسين.

ولا يزال العدو بخروقاته واعتداءاته، بعد أسبوع من إعلان الهدنة، يمنع الناس من العودة إلى منازلها ويدمر بعضها، مخترقا أحياء وشوارع. بقي يحلم بالوصول إليها وما استطاع طيلة الشهرين الماضيين، على طول الجبهة من الناقورة إلى شبعا.

هذه الانتهاكات التي لم تبادرها بالمثل المقاومة، قد تؤدي إذا لم تندلع الحرب مجدداً، إلى عمليات يحق للمقاومة القيام بها دفاعاً عن النفس، كما ينص اتفاق الهدنة وبالتالي فأن المقاومة عندها تصبح معنية بأن تباشر القيام بواجبها من جديد، ولا تزال الذاكرة حية عن اجتياح عام 82 وتداعياته وأعباء التحرير.

هل ظروف اليوم تختلف عن الأمس؟ الواقعية توجب علينا الاعتراف أن التحالف الدولي المساند لدولة العدو، كشف عن مشروعه على لسان نتنياهو نفسه، الشرق الأوسط الجديد ومطامعه الاقتصادية بثرواتنا وبلادنا، وهي الواقعة في وسط الكوكب، ويريد هذا الإرهاب المعولم (الصهيو – أطلسي) اليوم الهيمنة على العالم في أحادية قطبية تتيح له إضعاف من يشاء.

 أما المطلوب، فعلى محور الممانعة والمقاومة الذي يعي تماماً هذه الأهداف، أن يكون على سوية الاستعداد، للمواجهة العالية لهذا التنين المتعدد الرؤوس.

من غزة التي أصبحت أيقونة المقاومة وما زالت رغم الهولوكوست تقاوم وما زال شعبنا يواجه، من جنوب لبنان الذي قاد حرب الإسناد وقاتل وانتصر، ولكن أهداف المعركة عليه لم تتوقف بعد بل بلحظة الهدنة انتقلت المعركة إلى حلب وتحرك الإرهاب الاصولي المرتزق، دمية الأطلسي والتركي هو أبرز عناصره، محاولاً من خلال سيطرته المباغتة على حلب السيطرة على شمال الجمهورية السورية، ومطامعه معروفة تاريخياً يضاف اليها رغبة «إسرائيل» وأميركا بإقفال طريق الإمداد للمقاومة في لبنان. «إن امتنا كم من تنين قد قتلت » وواجهت، كما يدعونا سعادة، أيضا اليوم لا مناص من مواجهة هذا المشروع الاستعماري القديم والجديد أيضاً سايكس بيكو آخر..  وهو لن يمر.

ولنا من تجارب الشعوب أمثولة؛ المقاومة في فيتنام للولايات المتحدة الأميركية استمرت عشرين عاماً وانتصرت، روسيا واجهت الألمان في الحرب العالمية الثانية في موقعة ستالينغراد التي دمرت بالكامل، ولكنها انتصرت.

معركة طوفان الأقصى التي أعادت فتحت باب المواجهة بالحديد والنار مع العدو اليهودي الغاصب والطامع ولا يزال بالمزيد من الاستيطان. أهم ما أنجزته رغم كل الإبادة والتدمير الجاري، أنها أعادت إلى العالم، فلسطين وحقها بالوجود ومواجهة التطبيع الجاري. أما مقاومة لبنان التي يجتمع حولها كل أحرار أمتنا، أكدت في انتصارها اليوم أن غياب قادتها لم يهزمها بعدما أصبحوا منارات وقدوة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *