تعهد مجرم الحرب النتن بن نون أكثر من مرة بإعادة قاطني المستعمرات الصهيونية شمال فلسطين إلى منازلهم، لكن لم يلبث هو نفسه أن تحول إلى هارب من منزله، بعد تفجير مُسَيَّرة في غرفة نومه أرسلتها المقاومة اللبنانية. وعلى سيرة المسيرات، فإن تطور هذه التكنولوجيا العسكرية مضافًا إليها الصواريخ مستجدٌ علمي تاريخي من شأنه تسريع نهاية الأسطورة التوراتية المعروفة بإسم إسرائيل.
ظن النتن والحكومة الفاشية في تل الربيع، مأخوذين بغرورهم والدعم الأميركي المفتوح، أن المقاومة اللبنانية أصابها الوهن والفوضى، بعد تفجيرات البيجر والووكي توكي والاغتيالات. وبالتالي، بمقدور جيش النازية الصهيونية اجتياز الحدود اللبنانية والوصول إلى نهر الليطاني فيما يشبه النزهة. لكن ظنونهم المَرَضِيَّة اصطدمت بالحقيقة غير السارة لحاضرهم، والتي أخذت في الآونة الأخيرة تضغط على أعصابهم بشأن مستقبل كيانهم اللقيط. فقد حشدوا خمس فِرَق عسكرية، في الجنوب اللبناني، وجدت نفسها مُرغمة على القتال في شريط ضيق عاجزة عن تجاوزه. وتتكبد خسائر متزايدة في الأرواح والمعدات، إذ لا تتوقف حركة طائرات نقل قتلى العدو وجرحاه من جنوب لبنان إلى مستشفياته في فلسطين المحتلة.
وفي غزة، ما يزال العدو يتصرف بجنون بتأثير صدمة الطوفان. فقد تخطى في إجرامه الحدود وتجاوز السقوف، مدفوعًا بنزوع عنصري متوحش وسلوك همجي غير مسبوق. ألقى على قطاع غزة المحاصر منذ 18 سنة أطنانًا من المتفجرات تعادل في قوتها التدميرية ثلاث قنابل نووية وربما أكثر. وفي المقابل، هناك صمود أسطوري أذهل العالم وما يزال. فالعدوان الهمجي دخل سنته الثانية بأحدث ما في الترسانة الأميركية من أدوات القتل والتدمير وسط صمت دولي مريب وتخاذل رسمي عربي معيب، ومع ذلك أخفق العدو في تحقيق أيٍّ من أهدافه المعلنة. يضاف إلى ذلك، وهذا هو الأهم، أن المقاومة في لبنان وفي غزة تقدم أصرح الأدلة على أنها بخير، بل وتفرض إيقاعها. فالمقاومة ليست مهزومة ما دامت تقاوم، على رأي مهدي عامل. خسائر العدو في ارتفاع كل يوم باعتراف إعلامه، واستدراج جلاوزته إلى كمائن محكمة أصبح ظاهرة لافتة وموضوعًا ثابتًا في تحليلات المراقبين العسكريين.
ويتواصل تدمير آلياته بأساليب مبتكرة، ولا سيما الميركافا «فخر الصناعة العسكرية الصهيونية» وناقلات الجند. وتزيد المقاومة على ذلك، وبشكل خاص في لبنان، توسيع نطاق الهجمات في عمق الكيان، وهو ما يعني المزيد من الخسائر وكذلك الهاربين من منازلهم.
أظهرت المواجهة الحالية مع الكيان، أن الأمور لم تعد تجري كما كان يريد وتشتهي سفنه. فقد كانت حروبه خاطفة وحاسمة، لكن نظرية الحرب الخاطفة انهارت كلية يوم السابع من أكتوبر 2023. وتكشف العدو عن هشاشة ونقاط ضعف، تشير إلى أنه لم يعد قادرًا على حماية نفسه إلا بدعم أميركا ومشاركتها المباشرة في عدوانه. ولم يعد يشعر بالأمان، إلا على إيقاع حركة البوارج وحاملات الطائرات الأميركية. مع ذلك، وبالرغم من الدعم الأميركي والغرب أطلسي المفتوح عسكريًّا وسياسيًّا وماليًّا، إلا أن مآزقه تتعمق وليس العكس. فهو يزداد بطشًا ويمعن في القتل والتدمير، لكنه في الوقت عينه يخفق في ميدان المعركة ويعجز عن تحقيق أهدافه، والحرب أهداف كما قلنا ونعيد القول. دَمَّرَ غزة، إلا أنه فشل في تحقيق هدف واحد من أهدافه المعلنة، وأبرزها كما هو معروف استعادة أسراه والقضاء على المقاومة. أما استمرار هذه الأخيرة بالفعل على الأرض وتكبيده خسائر في الأرواح والمعدات، على ما أنف بيانه، فدليل على أن جيش النازية الصهيونية أخفق في السيطرة على الأرض. وفي لبنان، ورغم القصف والتدمير الممنهج، يقف العدو الصهيوني عاجزًا عن بسط سيطرته على قرية حدودية واحدة.
مقول القول، أوصل الكيان اللقيط برعونته وطبيعته المتوترة المهجوسة بالقلق الوجودي الأمور إلى حرب ليس بمقدوره وقفها أو التحكم بمجرياتها. فإن أوقفها، فقد أقر بهزيمة استراتيجية لحقت بها سيكون لها تداعياتها على بنائه الداخلي الذي لم يتحقق فيه الانصهار السياسي والاجتماعي والثقافي بعد بالمناسبة. وإذا استمر بالعدوان، فهذا يعني المزيد من الاستنزاف الشامل، وهو ما تراهن عليه المقاومة وتبرع في رفع منسوبه كل يوم.
باختصار، تأسيسًا على ما سبق، أزمات الكيان اللقيط تتشعب وتتعمق، وكلها نابعة من طبيعته العدوانية. وهذا أمر لا يتوقع سواه لكيان استعماري احلالي، يزداد جنوحًا نحو التطرف والتوحش، لم يترك لمن ابتلاهم الأنجلوساكسون به خيارًا سوى المقاومة. فإما المقاومة حتى اجتثاثه من فلسطين، أو الاستسلام له والتسليم بسيطرته على المشرق العربي وهيمنته في المنطقة. ولا حل لأزمات كيان على هذه الشاكلة، إلا بزواله. لماذا؟
لأنه زُرِع في فلسطين خلافًا لقوانين التاريخ، وعلى الضد من سُنن الجغرافيا. وكم كان المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي بعيد نظرٍ في قولته الشهيرة: «اسرائيل أكبر خطأ تاريخي في القرن العشرين».