تخال أن الزمن تبدل وأن الأصوات الحرة خفتت، فيما علت، وحيدة، تلك الأصوات الناشزة التي تبشر بقدوم زمن جديد من الخنوع والتذلل للمغتصب، فإذا بصوت من زمن الأساطير يأتيك مزغرداً، موقظاً فيك مشاعر خبت، معلناً أنه ورفقاءه أسياد الزمن المتجدد، زمن البطولة الذي لا يغيب عن أمتنا.
تخال أن الأرض بعدت عن منالنا وأن فلسطين تكاد تنسحب من الواقع نحو الحلم، فإذا بصوت من أرض الأساطير يأتيك معلناً أنها ولّادة للبطولة، دائمة الخصب، تضع أولاداً يتعلمون ضرب الحجارة قبل أن يتعلموا المشي ويصبحون شباناً يتعلمون عشق البلاد قبل أن يتدربوا على فنون الحب، ويشيخون بين زخات الرصاص، أو وراء قضبان السجن، ولا يتعبون من الصراع.
يقف القارئ مذهولاً أمام هذا الكتاب الذي يروي فيه الأسير رأفت البوريني تجربته مع الأسر. كيف لشاب في عمره أن يتمتع بكل هذا النضج والوعي وأن يقارب مسألة المقاومة والاحتلال بهذا الهدوء وهذه الثقة؟ قد تندرج هذه السيرة الروائية في ما يسمى أدب السجون، ولكنني أفضل على هذه التسمية مصطلح الأدب المقاوم، فالراوي لا يعمل على استدرار عطفنا بالحديث عن التجارب القاسية التي يعيشها، بل يكتب رسالة لشباب من جيله أو أصغر، يخبرهم فيها عن الصراع وفرح الانتصار على السجان بسلاح الإرادة. صوته القادم إلينا من سجن النقب يحمل التحدي الذي ينجح أبطال فلسطين في تعميمه ليبثوا قوة الحياة في نفوسنا.
ينجح رأفت البوريني في تحويل قصته الشخصية إلى قصة جميع الأسرى في معتقلات العدو، في كتابه تتحول الأنا إلى النحن: كيف نجحنا في الحصول على بعض حقوقنا، كيف بدأنا الإضراب عن الطعام، كيف واجهنا، كيف حولنا السجون إلى مدارس وجامعات ومراكز تثقيف… يفتح هلالين ليخبرنا عن تجربة شخصية مؤثرة هي علاقة الحب التي جمعته بنجود التي أصبحت خطيبته فيما بعد، وفي هذا الإطار نكتشف أن البطولة ليست محصورة ببعض شبان يقومون بعمليات في مواجهة المحتل، بل هي صفة لصيقة بمجموع الشعب، بعائلات تفخر بأبنائها المعتقلين، بعائلة نجود التي باركت علاقة ابنتها بزميل ابنها في السجن وسمحت لها بالارتباط به وقد بقي له ثمانية أعوام من السجن، بنجود التي أدركت مخاوف رأفت من زجها في علاقة طويلة ومعقدة وبادرت إلى مصارحته بحبها وباستعدادها لانتظاره طوال مدة سجنه المتبقية.
هذا هو السر، هذا واحد من أسرار هذه الأرض التي تعاند الموت وتعود إلى الحياة، مرة بعد مرة.
ليس صدفة أن يفتتح الكاتب روايته بوصف ربيع فلسطين، فهو فتى الربيع، مخلص الأرض من غياهب الموت، باعث التجدد، هو حفيد أدونيس وعشتار اللذين ما فتئا يعيدان بحبهما الحياة إلى الأرض وينتصران على الموت. يقول رأفت الذي عاش لمدة من الزمن في الأردن مع أهله عن محبوبته فلسطين:
“سأنهي تقديم امتحانات الثانوية العامة في المملكة الاردنية الهاشمية، وأنطلق بعدها صوب محبوبتي فلسطين، تلك البلاد التي ما إن تطأ قدماك أرضها، وتشم عبير ترابها وتتذوق طعم زعترها وزيتونها حتى تصبح جزءاً منك لا ينفصل عنك. لا في الصحوة ولا حتى في المنام. سيراودك طيفها حتى تدمن عشقها ومحبتها، وسيرتبط زمانك بها وستعدّ الوقت حتى معانقة ترابها، فهي ستنغرس في عقلك ووجدانك كما شجر الزيتون المتجذر في ارضها.” (ص.22)
وحين تسوء الأحوال في فلسطين يحاول أهله إقناعه بالعدول عن العودة إليها وبالبقاء معهم في الأردن، لكن الفتى لا يرضخ لمحاولاتهم، وعندما يتدخل خاله، يواجهه هو أيضاً بالرفض، فيقول الخال لوالديّ الفتى إن في عناده سراً، فهو إما عاشق وإما فدائي. وفي الحقيقة أن رافت كان عاشقاً وفدائياً في الوقت عينه، عاشق أرض فلسطين ومنخرط في العمل المقاوم في سبيل تحريرها.
يسير قراؤه على خطاه، يستكشفون معه بلدة بورين الغنية بالأشجار المثمرة وبطيبة أهلها وبساطتهم، يتجولون معه في أسواق نابلس، يتذوقون الكنافة من محلات الأقصى ويزورون جامعة النجاح. يحملهم على جناح كلماته نحو تلك الأرض التي تربوا على حبها، يخالون أنهم في حلم جميل على طرقات فلسطين، حتى يتداخل الكابوس بالحلم وتعتقل قوات الاحتلال رأفت وابن عمه، وتبدأ رحلة العذاب…
ما يبقى في ذهن القارئ بعد قراءة مجريات التحقيق والتعذيب من قبل سلطات الاحتلال هو غياب أي قانون وأي رادع حقوقي في معاملة الأسرى. حينها ندرك مرة أخرى، أهمية تلك الكتب التي تروي تجارب الأسرى في المعتقلات الإسرائيلية، وضرورة نشرها وبث أخبارها فيما بيننا لكي لا ننسى أن البطولة هي التي تصنع تاريخ الأمم، بينما يتدحرج الخونة والأذلاء نحو غياهب النسيان، كما يجدر بنا ترجمتها ونشرها عبر العالم لكي يرى الخيّرون من أبناء البلدان التي تدعم حكوماتها الكيان المغتصب وجه هذا الكيان الحقيقي.
من رأفت البوريني، الأسير الذي أمضى ثمانية عشرة عاماً في معتقلات العدو، رسالة إيمان وصمود، ومنا إليه وإلى زملائه رسائل حب واعتزاز.
ألقيت هذه الكلمة في ندوة حول كتاب الأسير رأفت البوريني في: “رحلة في متاهات الأسر”
عميدة الثقافة في الحزب السوري القومي الاجتماعي فاتن المر