تعايش

عيش وتعايش وعيش مشترك، هذه هي شعارات السياسيين الطائفيين الذين يلقونها ثقيلة مرهقة على مسامع “الشعب اللبناني العظيم”. نحن إذا تمعّنا قليلاً في معنى هذه الشعارات، من جهة، وفي معنى أن يكون اللبنانيون شعباً عظيماً، من جهة أخرى، نجد أن هذه الشعارات وهذه المفاهيم قد دمّرت هذا الشعب العظيم ومزقته حتى اصبح شعوباً متعايشة بحذر حيناً ومتقاتلة ومتناحرة أحياناً.

منذ 87 سنة، فقط، وضع سعادة المبدأ الاساسي القائل بأن “الامة السورية مجتمع واحد“، وألحقه بثلاثة مبادئ إصلاحية تنفيذية عملية هي: فصل الدين عن الدولة، منع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء القوميين، وإزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب.

منذ 87 سنة بدأ نفير النهضة السورية القومية الاجتماعية ينبه ويرسم الاتجاه الصحيح ويخاطب العقول ويقول: “إن أعظم عقبة في سبيل تحقيق وحدتنا وفلاحنا هي تعلّق المؤسسات الدينية بالسلطة الزمنية وتشبث المراجع الدينية بوجوب كونها مراجع السيادة في الدولة وقبضها على زمام سلطاتها أو بعض سلطاتها على الاقل. والحقيقة أن معارك التحرر البشري الكبرى كانت تلك التي قامت بين مصالح الامم ومصالح المؤسسات الدينية المتشبثة بمبدأ الحق الإلهي والشرع الإلهي في حكم الشعوب والقضاء فيها، وهو مبدأ إستبعد الشعوب للمؤسسات الدينية إستعباداً أرهقها”.

وأيضاً: “إن الاحوال المدنية والحقوق العامة لا يمكن أن تستقيم حيث القضاء متعدد أو متضارب ومقسم عل المذاهب الدينية، الأمر الذي يمنع وحدة الشرائع الضرورية لوحدة النظام. لا بد من وحدة قضائية- شرعية، وهذه الوحدة التي تجعل جميع أعضاء الدولة (أي الشعب) يشعرون أنهم متساوون أمام القانون الواحد، هي أمر لا عنى عنه.”

وأيضاً: “لا يمكن أن تكون لنا عقلية عامة واحدة ونحن نعمل بمفاهيم مختلفة متنافية مع وحدة المجتمع. يجب أن نقف في العالم أمة واحدة لا أخلاطاً وتكتلات متنافرة النفسيات. إن الحواجز الاجتماعية الحقوقية بين الطوائف الدينية تعني إبقاء داء الحزبيات الديدية الوبيل.”

نقول هذا الكلام ونعيده اليوم بمناسبة رفض المرجعيات الدينية المتجدد لقانون الزواج المدني الاختياري رفضاً عنيفاً وكأنه قانوناً شيطانياً ينتهك الدين وقدسيته ويشكل كفراً بالله وشريعته!!

ولأن “الفينيق” هي مؤسسة إعلامية تعنى بالفكر القومي الاجتماعي، فإننا عبر منبرها نريد أن نضع النقاط على الحروف في هذه المسالة الخطيرة كما يلي:

1 – إن ألف باء الأمة والمجتمع والشعب والدولة والسيادة هي وحدة الحياة والمصالح والمصير لجميع المواطنين، هي وحدة حقوقهم وواجباتهم تجاه دولتهم وتجاه وطنهم الواحد الذي يضمهم ويحضنهم ويصهرهم في تفاعل أجتماعي إقتصادي يشملهم كلهم.

2 – إن الدين، أي دين، لا يمنع تزاوج الناس وإمتزاجهم وتفاعلهم ولا يضع حدوداً لهذا التزاوج والامتزاج والتفاعل، وأن كل تأويل للدين يجعل من الدين عائقاً وحاجزاً ومانعاً لتزاوج الناس ولإمتزاجهم وتفاعلهم هو كفر بالله وبالدين وسوء تأويل له.

3 – إن الشرع الديني الذي نزل في “قوم ما اتاهم نذير من قبل” في زمن معيّن ومكان معيّن وأحوال إجتماعية معيّنة، لا يجب أن يصبح جامداً (ريجيد بالانكليزية) لأن جموده يخالف جوهر الدين نفسه الذي جاء “هداية للعالمين” وقال بأن “لكل أجل كتاب“، أي أنه لكل زمن حكمه. بالإضافة الى ذلك فأن جمود الشرع يخالف المبدأ العلمي الذي يقول بأن الاحوال الاجتماعية تتطور وتتغير وأن كل تطور وتغير يستوجب تشريعاً جديداً ينظمه.

4 – إن في الدين الاسلامي المحمدي، مع خلوّه من أي شرع يضع حدوداً للتزاوج والامتزاج والاختلاط والتفاعل الاجتماعي بين الناسن جميعهم ما عدى المشركين، فإنه ينص صراحة على تحليل هذا التزاوج مع أهل الكتاب ويوصي به. فالآية الخامسة من سورة المائدة تقول:

“اليوم أحِلّ لكم الطيبات، وطعام الذين أوتوا الكتاب حلُّ لكم وطعامكم حلُّ لهم والمحصنات من المؤمنات، والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم”. فأهل الكتاب ليسوا بمشركين عملاً بالآية 46 من سورة العنكبوت: “ولا تجادلوا اهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا منهم، وقولوا آمنّا بما أنزل الينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون”. وأيضاً الآية من سورة البقرة التي تقول: “آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه، والمؤمنون كلُّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرِّق بين أحد من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير”.

5 – إن الدين يجب أن يكون هداية للعالمين وليس مشكلة لهم وعائقاً أمام تلاقيهم وتفاعلهم. إن دور العائق ودور المشكلة الذي يلعبه بعض رجال الدين هو دور لا يجيزه الدين ولا تجيزه الدنيا، وأن وراءه مصالح زمنية مادية خاصة تبتز الناس وتجعلهم رهينة الشيوخ والكهنة الذين يقبضون لقاء “خدمات” عند الولادة ثم العمادة أو التطهير، وعند الزواج وعند الطلاق، وعند الموت أيضاً. وهذه الخدمات لم يخولهم الله ودينه تأديتها ولا يوجد لا في القرآن ولا في الانجيل ما يفرضها. إن رفض المؤسسات الدينية لقانون مدني إختياري موحد للاحوال الشخصية، وخاصة للزواج المدني، يوجد وراءه مصالح مالية تأبى هذه المؤسسات أن تخسرها وتريد أن تتمسك بهذه الوظيفة المدنية الزمنية التي لا يوجد لها مسوغ ديني إطلاقاً.

6 – يبقى أن نحسب العوامل الخارجية حسابها الصحيح في بلد مكشوف ومخروق ومرسح لنشاط المخابرات الاجنبية من الشرق والغرب. فقد أصبح واضحاً ومعروفاً لدى الناس بأن مرجعياتهم الدينية مرتبطة بالخارج وتتلقى الإيعاز من الخارج الذي يريد أن يبقي شعبنا جسماً رخواً مطواعاً فاقداً لعصبيته الوطنية- القومية- الاجتماعية، غافلاً عن وحدة حياته ووحدة مصالحه ووحدة مصيره على أرض وطنه الواحد. يريده أن يبقى شعوباً متعايشة لا شعباً واحداً خاضعاً لشرع واحد ونظام واحد وحقوق واحدة، يريده أن يبقى قطعاناً تتعايش وتتنافس لحد التقاتل على مصالح وموارد يفترض أن تكون تحت سيادته وحده كشعب واحد ومجتمع واحد. يريده أن يبقى جماعات مستقلة عن بعضها ويمنع عنها إمكانية التفاعل الاجتماعي الذي هو جوهر وجود المجتمع والدولة وسيادتها.

لقد آن للشعب في لبنان أن يدرك بأن صفة التعايش هي إهانة وإحتقار له وهي صفة تليق بالحيوان لا الانسان. إن قطعان الاغنام والماعز والابقار تتعايش وتسرح في حقل واحد وتأكل منه وتنام فيه بسلام دون أن تتقاتل وتفترس بعضها، لكنها لا تتفاعل ولا تتزاوج. إن تزاوج الابقار مع الاغنام أو الماعز هو مخالف لجنسها وطبيعتها. أما الانسان، وخاصة أبناء الوطن الواحد، فميزته وصفته وما يليق به فهو التفاعل الاجتماعي الاقتصادي المادي والروحي، هو وحدة الحياة ودورتها الاجتماعية الاقتصادية النفسية الواحدة التي تشمل جميع المواطنين في وطنهم الواحد الذي يجمعهم ويضمهم ويؤلف منهم مجتمعاً واحداً وأمة واحدة.

إنزعوا عنكم مفاهيم التعايش المهينة المحقرة لكم وإعتصموا بالقومية الاجتماعية التي تحرركم وتجعل منكم مجتمعاً إنسانياً واحداً وأمة واحدة.

أقصوا عنكم هؤلاء السياسيين الطائفيين الذين لم يستطيعوا الوصول بكم حتى الى التعايش السلمي بل كانوا من عوامل وأسباب ودوافع تقاتلكم وصراعاتكم التناحرية الداخلية على حقوق ومصالح وموارد يفترض أن تكون واحدة للجميع.