كلام في الاختراق الخارجي وأسبابه

لا نرى أساسًا علميًّا يمكن الإتكاء عليه والإنطلاق منه، للقول بالقابلية للإختراق الأمني الخارجي لدى عِرق من الأعراق دون سواه، أو بين شعوب ذات خصائص حصرية تمتاز بها. ومهما بلغت التكنولوجيا من تقدم، فإن دورها في الإختراق الأمني يأتي بعد روافده ومغذياته في الواقع القائم. فلا يخلو مجتمع من ضعاف نفوس لديهم الاستعداد للتعاون مع العدو، الذي يجد فيهم طابورًا خامسًا. وعادة ما تكون امتدادات هذا الطابور في الدول المتعددة الإثنيات والمذاهب، على أرضية احتكار السلطة من قِبَل الأغلبية، ناهيك بالقمع والظلم والفقر والتمييز بين أبناء الوطن الواحد.

كما عرف مسار الصراعات بين الأمم من يقبل “التعاطي” مع العدو، تحت عناوين مختلفة منها “الواقعية” مثلًا، أو “انقاذ ما يمكن انقاذه” و”وقف النزف في البشر والموارد بلا طائل”. ومن النماذج الفاقعة بهذا الخصوص، حكومة فيشي الفرنسية، وقد تشكلت إبان احتلال ألمانيا النازية لفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية. للتذكير، احتلت ألمانيا الهتلرية فرنسا خلال 47 يومًا فقط.

بالعودة إلى الصدد، ما تزال قولة ابن خلدون الشهيرة فاعلة: “المغلوب مولعٌ بتقليد الغالب”. وغير بعيد عن ذلك، ظاهرة بدأنا نلحظها في مجتمعاتنا لم تعد تخجل من التعبير عن نفسها في وسائل التواصل الاجتماعي أكثر من غيرها، بعد التهافت التطبيعي مع الكيان الصهيوني الشاذ اللقيط. ظاهرة أقرب ما تكون إلى الشذوذ الفكري والأخلاقي، حيث يبدي البعض اعجابهم بالكيان كأنموذج مثالي للتقدم والديمقراطية.  ويغيب عن بال هؤلاء أن من أسباب زرع الكيان في فلسطين، الحيلولة دون تقدم المجتمعات العربية وحماية النظم الاستبدادية المتخلفة، لضمان ديمومة الضعف العربي قدر المستطاع ولأطول زمن ممكن.

في حالتنا العربية، ليس صحيحًا ومرفوض علميًّا، ما يُقال تلميحًا وتصريحًا في أوقات بعينها أن لدينا القابلية للإختراق الأمني الخارجي أكثر من غيرنا. أما الصحيح علميًّا باجتهادنا ورأينا، فإن واقعنا يكابد آفاتٍ سياسية مقيتة وظروفًا اقتصادية قاسية يستحيل تجاهل دورها في الضغط على الإنسان لجهة “تفعيل” أسوأ ما فيه، أي العمالة للعدو. وفي الإضاءة على تلك الآفات والظروف، يطيب لنا أن نبدأ بإشكالية السلطة السياسية وإخفاق العرب في إيجاد حلول لها بمعايير العصر. لطالما كانت هذه الإشكالية جسرًا للتدخل الخارجي في الشؤون العربية، منذ امرؤ القيس الملقب بالملك الضليل، الذي لجأ إلى الروم لاستعادة مُلك أبيه حجر بن الحارث الكندي في مملكة كندة. وقد فعلت الشيء ذاته أسر حاكمة عربية في الحاضر، لم تتردد بالإستنجاد بقوى دولية لاستعادة عروشها أو حمايتها من شعوبها ومن دول “شقيقة”.

لم يعرف العرب بعد سوى أسلوبين للإستحواذ على السلطة السياسية ونقلها، هما الإنقلاب والتوريث. وفي المحصلة، أخفق العرب في بناء دول مدنية حديثة لكل مواطنيها تتخطى نهج المغالبة للظفر بالسلطة والانتقال من دولة الرعايا إلى دولة المواطنين.

مقصود القول، واقعنا العربي مبتلى بالإستبداد بمختلف مسمياته وتبدياته، كالديكتاتورية والشمولية والأنظمة الأتوقراطية (أنظمة الفرد الواحد المطلقة). وأينما ذهب الاستبداد وحل، قال له الفساد خذني معك، بتعبير عبد الرحمن الكواكبي. الإستبداد ليس بمقدوره الاستغناء عن الفساد والإفساد، فالأول رئته التي يتنفس منها والثاني وسيلته لشراء الضمائر ونشر التجهيل والتخبيل. وأينما اجتمع الاستبداد والفساد، يكون الفقر ثالثهما، ناهيك بما يتناسل عن هذا الثالوث الحقير من قمع للإنسان وقهر، يُضاف إليهما الإذلال، والتهميش، والظلم، والتمييز.

دولة الحاضر العربية مأزومة، بل ولَّادة أزمات، لأسباب عدة تخلَّقت على أرضية نشأتها الشاذة غير الطبيعية على يد الإستعمار الأجنبي، الذي رسم الحدود، وفي حالات معينة قرر من يحكم. من هنا نفهم عدم ثقة الإنسان العربي بدولته، التي تبادله عدم الثقة أيضًا وتستسهل قمعه عندما ترى   سلطاتها الأمنية البوليسية الحاكمة ذلك ضروريًّا من زاوية مصالحها. وما يزال واقعنا العربي متأثرًا بالحقبة الاستعمارية، على صعيد هشاشة البنى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بشكل خاص.

في واقع كهذا، لا غرابة في استمرار عصبيات ما قبل الدولة متمثلة في القَبَليَّة والعشائرية، والطائفية، والمذهبية، والجهوية. وقد ثبت بعد احتلال العراق سنة 2003، ثم اندلاع شرارة ما بات يُعرف ب “الربيع العربي”، أن مجتمعاتنا لم تحقق الإندماج، وأقرب ما تكون إلى مجاميع قَبَلِيَّة وعشائرية وطائفية ومذهبية لديها القابلية للتنازع والاقتتال.

تأسيسًا على ما تقدم، ليس لنا أن نستغرب نزوع قوى سياسية في بعض بلداننا إلى التعاون مع “الخارج”، لتحقيق مصالحها، مهما كانت موغلة في الأنانية والإضرار بمصالحنا كأمة. ولا تأخذنا الدهشة إذا ما بلغت الأمور بقوى سياسية درجة تبنى سياسات العدو، كما في لبنان الشقيق، للتخلص من المقاومة، وعلى وجه الخصوص حزب الله، أكثر من مجرم الحرب نتنياهو. هنا، نعتقد أن ما تحقق للعدو من اغتيالات في لبنان ليس دليلًا على أنه خارق، وهو ليس كذلك. نرجح أن العدو نفذ ما قدمته له جاهزًا، على طبق من فضة، قوى دولية واقليمية، بعضها عربي ربما، ومحلية. ولكن لسوء حظ هؤلاء جميعا، فإن حزب الله قد تجاوز على ما يبدو تفجيرات البيجر والاغتيالات، واستعاد عافيته على صعيدي التراتبية القيادية والفاعلية في الميدان.  

 في السياق أيضًا، لم يعد مُستغربًا في هذا الزمن العربي الرديء، اصطفاف أنظمة عربية في خندق العدو ضد قوى المقاومة. ولا يصح أن يجتاحنا هول المفاجأة، عندما تقول عضو في الكنيست الصهيوني عيانًا بيانًا “إن أنظمة عربية تطلب إلينا القضاء على حركة حماس قبل أي وقف لإطلاق النار”.

أخيرًا، في هذا الذي قلنا في سطورنا يجب البحث عن أسباب الإختراق الأمني الخارجي وليس في طبيعة الإنسان العربي.