“معراب اثنين” جعجع الى أين؟

في الأسبوع الثاني من تشرين الثاني من كل عام، تقيم بريطانيا سلسلة فعاليات رسمية وشعبية تحت شعار “يوم الذكرى” تخليداً لتضحيات ملايين التابعين للتاج البريطاني خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية. وتحرص المحطات التلفزيونية بهذه المناسبة على بث شريط يعود إلى العام 1938، يظهر فيه رئيس الوزراء آنذاك نيفيل تشامبرلين واقفاً على درج الطائرة التي أعادته من ألمانيا حيث وقع مع آدولف هتلر “معاهدة ميونيخ” لمنع الاعتداء. وكان رئيس الوزراء يلوح بوثيقة المعاهدة رداً على المشككين الذين اتهموه بالرضوخ للنازيين! وفي غضون أسابيع قليلة، سارت الجيوش الألمانية لتجتاح معظم أنحاء القارة الأوروبية… فاستقال تشامبرلين. لكنه لم يعتكف، ولم يقف على “الحياد”، بل انخرط في اللجنة الوطنية التي عملت على ضمان صمود بريطانيا في وجه الزحف الألماني.

من حق القاريء أن يستغرب حديثنا عن الحرب العالمية في حين أن “معراب” موضوعنا، وكذلك من حق القاريء علينا أن نوضح ونفصّل.

أولاً، اخترنا حدثاً من تاريخ بريطانيا الغربية الأطلسية الأميركية حتى لا يُقال إننا ذهبنا شرقاً.

ثانياً، أردت أن أستفيد ويستفيد معي القاريء من الدروس التاريخية وتجارب الأمم لفهم أبعاد التحركات السياسية الجارية في إطار العدوان الصهيوني الوحشي على لبنان واللبنانيين.

ثالثاً، يتوجب علينا التأكيد على أنه لا وجه للشبه بين رئيس وزراء إمبراطورية لم تكن تغيب عنها الشمس يعمل من أجل مصلحة بلاده، وبين رئيس حزب “القوات اللبنانية” الذي ما كان ليتحرك على الساحة لولا قانون عفو خاص أخرجه من السجن من دون أن يلغي أحكام إدانته بجرائم قتل عديدة.

الدرس الأول هو أن أية معاهدة بين طرفين أو أكثر ليست سوى ورقة يمكن تمزيقها ساعة يشاء أحد موقعيها. ولا يمكن الركون إلى الضمانات الخارجية ما لم تكن القوة الذاتية جاهزة وعلى سوية عالية لمواجهة كل الاحتمالات.

والدرس الثاني أن وعود الطرف الآخر (أو الأطراف الأخرى) لا تشكل قاعدة متينة يمكن التخطيط والبناء عليها. وهي تبقى مجرد كلام لأن “القوة هي القول الفصل في إثبات الحق القومي”.

والدرس الثالث أن المصلحة القومية تتطلب، في أحيان كثيرة خوض المواجهات دفاعاً عن آخرين وليس فقط دفاعاً عن الذات. ويصبح التدخل ضرورياً إذا ما كانت النتائج المتوقعة تمسّ المصالح الحيوية للأمة.

والدرس الرابع الأساسي أن فشل التوصل إلى توافق مع العدو، وبغض النظر عن التمايزات الداخلية، لا يعني الوقوف على الحياد في المعركة عندما يكون مصيرنا القومي على المحك… فـ”الحياد” في مثل تلك الظروف هو الخيانة الموصوفة.

والآن نعود إلى “لقاء معراب الثاني” لنتناوله في ضوء ما أوردناه فوق. ولن نتوقف طويلاً عند الحضور الضعيف، ومقاطعة عدد من القوى لأسباب متنوعة، وطموحات شخصيات مارونية عديدة سعياً إلى منصب رئيس الجمهورية… لأن ذلك مرتبط بالعلاقات الداخلية المعقدة من جهة، وبعدم ثقة أطراف فاعلة في المعارضة بـ “قيادة” جعجع من جهة أخرى. إن هذه المسائل مجرد تفصيلات لا قيمة لها إذا ما قُورنت بالمخطط الصهيوني الذي يتصدى له المقاومون بشجاعة عزّ نظيرها سواء في لبنان أو الضفة الغربية أو قطاع غزة، وصولاً إلى الجمهورية السورية والعراق!

يخطئ جماعة “معراب” (أو لعلهم يعلمون ويخفون) في تحديد نقطة الانطلاق لمشروعهم. فالمشكلة لا تكمن في وجود المقاومة وسلاحها، بل في الأطماع الصهيونية المعلنة على كل المستويات. المسؤولون الصهاينة يتنافسون في التأكيد العلني المتبجح بأن الوعد التوراتي أعطاهم أرض لبنان وباقي مناطق الهلال الخصيب. هذا حسب نصوصهم اليهوهية (!)، لكن الكيان اليهودي يحتاج الآن إلى منابع الأنهار وإلى الليطاني وإلى مكامن النفط والغاز عند السواحل الجنوبية. هم يريدون تهجير اللبنانيين الجنوبيين كما تهجير الفلسطينيين… وسيأتي الدور على الآخرين لاحقاً.

ويتمسك “المعرابيون” بالقرار 1701 (سنة 2006) وقبله القرار 1559 (سنة 2004)، وهما القراران اللذان يفرضان قيوداً على السيادة اللبنانية. ويزعم هؤلاء أن تطبيق القرار 1701 على الأقل قد يعيد الهدوء إلى الجنوب اللبناني. ولنسلم جدلاً بأن القرار متوازن ومحق فعلاً، فمن يضمن لنا أن يلتزم القادة الصهاينة بتطبيقه؟ إن تاريخ الكيان الصهيوني مع القرارات الدولية غير مشجع على الإطلاق، ولعل المثال الأبرز والأخطر يتمثل في كيفية تطبيق “اتفاق أوسلو” العتيد بين تل أبيب ورام الله. فقد إبتلع المستوطنون اليهود القسم الأكبر من “أراضي السلطة”، فأصبح قيام الدولة الفلسطينية مستحيلاً للغاية.

قلنا في البداية إننا لن نركز على المسائل السياسية المحلية، ومنها انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية. ومع ذلك سنلامسها من بعيد لأننا بصدد تفكيك المطلب “المعرابي” الآخر الداعي إلى نشر الجيش اللبناني في مناطق الحدود ونزع سلاح كل الجماعات غير الرسمية (يعني المقاومة)، وهذا مطلب حق يراد به باطل. فقد لفت نظرنا كلام قاله جعجع عن “انسحاب” المسلحين من الجنوب “إلى شمال الليطاني”، وهو يتلاقى في طرحه هذا مع الصهيوني الطامع بأرضنا وثرواتنا.

أما بالنسبة إلى نشر الجيش اللبناني، فالقوميون الاجتماعيون من أشد الناس حماسة له. المبدأ الخامس من مبادئ الحزب الإصلاحية يدعو إلى “إعداد جيش قوي يكون ذا قيمة فعلية في تقرير مصير الأمة والوطن”. عظيم!! لكن من يضمن أن يكون بناء الجيش “المعرابي” وفق قواعد وطنية، وليس على أساس طائفي؟ كلنا نعرف أبعاد الهيمنة الأميركية على قرارات القيادتين العسكرية والسياسية بما يتعلق بمؤسسة الجيش. ولكن هذا حديث ذو شؤون وشجون ليوم آخر.

عُقد “معراب الأول” في نيسان الماضي، فما أنتج شيئاً جديداً. وعُقد “معراب الثاني” هذا الأسبوع، ليخرج بالنتيجة نفسها. إذن لا شك في وجود مقاصد أخرى من هذا الحراك الذي يعمل له سمير جعجع رئيس حزب “القوات اللبنانية”!!

أول ما يتبادر إلى الذهن أن جعجع يسعى إلى إستيلاد تجربة العام 1982. ومع أن المعطيات الحالية تختلف عن مثيلاتها خلال الثمانينات، لكن يبدو أن بعضهم لا إرادة عنده، أو أنه لا يستطيع الخروج من شرنقة الفتن المذهبية!