أوهام الانبعاث

في خطاب لبنيامين نتنياهو القاه مؤخرًا، استبدل فيه اسم حرب تشرين الثانية (طوفان الاقصى)، والذي اعتمده في مطلع الحرب باسم عملية السيوف الحديدية، باسم جديد هو (تيكوما)، وهي تعني الانبعاث. واعادة تسميته هذه ليست عملا عشوائيا غير مدروس أو تشاطرًا لسانيًا، وإنما للدلالة على انبعاث جديد ورؤية جديدة للعقل السياسي (الإسرائيلي)، وهذا الانبعاث وان كان له جذر خرافي توراتي، إلا انه يمثل حاجة للغرب الذي يخاطبه نتنياهو في كل مناسبة قائلا : انني اخوض هذه الحرب ليس دفاعا عن (إسرائيل) فقط وإنما بالنيابة عنكم وعن مصالحكم وثقافتكم.

هذه (التيكوما)، أو الانبعاث، تريد شرق اوسط جديد يتكون من قاطرة رئيسة هي دولة الاحتلال والتي تجر وراءها مقطورات تمثل فتاتنا المتناثر في الأمة والعالم العربي والإقليم، خالية من المقاومة الفعلية والنظرية ومن مشاريع النهوض والوحدة وتحرير الأرض والإنسان، تسودها الثقافة الشوهاء والفن الهابط، وقيم الفردية الأنانية والخلاص الشخصي ولو على حساب خلاص الجماعة القومية (الأمة)، ولذلك مقدمات عدنا لنراها في غزة ولبنان.

حجم ما أصاب دولة الاحتلال صبيحة السابع من تشرين اول من العام الماضي كان مهولا، وما تبعه من تحدٍ مارسته المقاومة، ومن صمود أثبته شعب غزة، برغم الكارثة الإنسانية والقدر غير المسبوق من القتل والحرق والتدمير. هذا ما دعا (اسرائيل) للقول إن هذه الحرب هي حرب الاستقلال الثانية، وإنها حرب وجود. ولكن ما لحق في الحرب من نهوض اقليمي على شكل جبهات مساندة واشغال من اليمن والبحر الاحمر الى الخليج والمقاومة العراقية ثم لبنان كان أشد هولًا، مما اضطر (الاسرائيلي) لإعادة النظر في حجم الحرب ومداها، وبأن يرى أن حلوله الابراهيمية غير قادرة على ملء الفراغات، وأن إعادة تشكيل الإقليم من جديد هو الامر اللازم والضروري لبقاء كيانهم. فلا يكفي الانتصار على غزة ومقاومتها للشعور بزوال الخطر الوجودي، ولذلك لابد من الانتهاء من سايكس- بيكو القديم لصالح تقسيم جديد، تقسيم ما هو مقسم وشرذمة ما هو مشرذم. وإذا كان هذا هو الهدف، فلابد لتحقيقه من حروب جديدة اقليمية تخوضها دولة الاحتلال وحلفاؤها من غرب وعرب، ثم حروب أهلية تشعل نارها دولة الاحتلال حيثما تتواجد المقاومة، ويمولها عرب الإبراهيمية.

غزة التي أراد الاحتلال جعلها جبهة ثانوية، فمع ذلك، نراها تتعرض لهجمة بالغة القسوة والشراسة، ولكنها لا تستهدف المقاومة فحسب، اذ لا تجد ما تدمره بعد ان لم يتبق في غزة، وخاصة شمالها، ما يمكن تدميره، لذلك نراها تتركز في استهدافها على المدنيين الذين تطاردهم الطائرات المسيرة وغير المسيرة والدبابات والقناصة، ولكن اذا كان الاحتلال قد ارادها جبهة ثانوية فيما يشن الحرب على لبنان، فان النظام العربي الرسمي كان موقفه دون ذلك، فهو لا يرى ان هناك حربا في غزة لذلك يلتزم الصمت المطبق إزاء ما يجري هناك، موكلا للفضائيات، العربية اللسان العبرية المضمون والهوى، الهمس والإشارة غير البريئة والتي تذهب باتجاه ان هذه الحرب كانت منذ بدايتها مغامرة غير محسوبة، وان أكلافها بالغة. ويصل البعض منها للقول بانها عدوان فلسطيني على (إسرائيل) المسالمة والآمنة ومدنييها الأبرياء، ولذلك يجب وقفها رفقًا بغزة واهلها الذين يعانون، متناسية تلك الفضائيات دورها وأدوار مموليها ودولها في حصار غزة ودعم من يدمرها، وكان توسط تلك الدول يقتصر على إعطاء الوقت لدولة الاحتلال لتقوم بعملها نيابة عنها. وهذا الصمت لا يقتصر على النظام العربي الرسمي فقط، وإنما على النظام الفلسطيني الرسمي أيضًا.

غزة تعاني اليوم ما تعانيه، وأصبح جليًا، من السلوك (الإسرائيلي) والصمت العربي المريب، أن ما يجري هو عملية تطهير عرقي تصمت عنه الدول التي تتأثر مباشرة بنتاجه، فيما تثور عليه نيكاراغوا وغيرها في اقصى الأرض. هذا التطهير العرقي يجب ان ينتهي برحيل الفلسطيني، كي يعيش المستوطنون الغرباء على أرضه بأمان ودعة. وهذه هي خطة الجنرالات التي ابتدعها الجنرال المتقاعد (ايغورا ايلاند)، وظهرت للمرة الأولى قبيل الربيع العربي، وذلك باقتطاع جزء من سيناء لتكون امتدادًا للدولة الفلسطينية المسخ والمنزوعة من كل مقومات الدولة لتقوم عليها، ولكن الخطة تدحرجت وتطورت وتورمت خلال الحرب، لتصبح طرد الفلسطينيين من كامل غزة لا بل ومن الضفة الغربية ومن كل فلسطين الانتدابية أيضًا.

لا زالت المقاومة في غزة قوية. وتشير المصادر (الإسرائيلية) الى انها اعادت تنظيم صفوفها وتدريب شبان جدد للقتال، وإنها تعتمد على تكتيكات مرنة ومتغيرة، ولا زالت تقصف “تل ابيب” وجوارها بصواريخها. ومن الواضح انها لم ترفع الراية البيضاء. ولكن ما يؤلم حقا هو الجانب الإنساني في غزة وما تعانيه الحاضنة الشعبية للمقاومة التي تحمّلت ما لا يتحمله بشر.

يتركز الوضع اليوم على لبنان، و(الاسرائيلي) لم يعد يتحدث عن الوصول الى نهر “الليطاني” فقط وإنما إلى “الاولي”، وقريبا سيتحدث عن الوصول الى بيروت والضاحية الجنوبية التي يراها “عش الدبابير”، وهو يعتمد في لبنان على طابور خامس وقوة مخترقة لا زالت مقتنعة بقوة العدو، وتريد ان تكون حاضنةً له وسكينًا في خاصرتنا وبتمويلٍ مغموسٍ بالنفط والكاز. لم يتعلم هؤلاء من تجربة 1982، ومن استحالة فرض رئيس عميل على لبنان، وهو إن فُرِضَ فهناك من يقوم بترحيله الى عالم آخر.

إن في غزة أو في لبنان، هي معركة واحدة، والحسم لصالحنا في اي منهما، وستنعكس نتيجة الواحدة على الأخرى. وليس أمامنا الا الاستمرار في هذه الحرب والصدق والصبر والصمود، مستذكرين ما نسب الى طارق بن زياد في خطابه لعساكره عند عبوره المضيق: “العدو من أمامكم والبحر من ورائكم”.

سعاده مصطفى أرشيد – جنين – فلسطين المحتلة