إلى أين؟ إلى أين؟
ليس سؤالاً جنبلاطيًّا يُطرَح للشّغب السّياسي.
إنّها اليوم، وعلى أعتاب سنة جديدة تذرّ بقرنيها على عالم حزين، صرخةُ كلّ لبناني خائف على ما تبقّى من هذا الوطن العزيز، والحبيب، والجميل رغم كلّ شيء.
إلى قعر الهاوية؟ لقد بلغناه، فماذا تحت القعر؟ ماذا في جعبة شياطين السّياسة بعدُ، لشعب خسر مدّخّراته في لعبة قذرة نفض الجميع أيديهم منها، فيما يتحسّر النّاس على جنى أعمارهم؟
ماذا بعد كلّ هذا التّهاوي المستمرّ وعلى مختلف المستويات؟
تعبنا من إحصاء المخاطر والتّهديدات، حفظناها عن ظهر قلب: بلد بلا رئيس وبحكومة تصريف أعمال قراراتُها لا تُسمِن اللبنانيين ولا تُغني من جوعِهم.. دولار يرتفع ويرتفع وكأنّ لبنان فضاء مفتوح له يحلّق فيه ويعلو بلا حدود، فيما يرخص أمامه كلّ ما هو إنساني في بلد كان على الدّوام بلد الإنسان.
اللبنانيون يدفعون ثمن خدمات لا يتلقّونها، فالماء ميؤوس من وصولها إلى البيوت، والكهرباء حدّث ولا حرج، قطاع التّعليم ينهار فيما الأساتذة يطلقون صرخات الألم ولا مَن يسمع، وقطاع الاستشفاء هو الآخر يعاني، ولا حلول في الأفق، يمدّ النّاس أيديهم لأصحاب الأيادي البيضاء في حال اضطروا لدخول مستشفى أو حتّى لشراء دواء..
شتاء بارد قادم، البيوت باردة، والقلوب خائفة.. ولقمة العيش هاربة من بين أيدي النّاس.. يلاحقونها فتهرب.. تحلّق مع الدّولار، ووحدها اليد الطّولى تطالها.
لا اتّفاق موحّد على رأي حول أسباب الأزمة، هل هي أزمة اقتصاديّة؟ هل هي أزمة سببها الفساد؟ هل هي حصار؟
كلّ ذلك لم يعد مهمًّا، كأنّما النّاس استسلموا لليأس، أو كأنّهم يمرّرون الوقت بانتظار الآتي الّذي يعتقدون أنّه سيكون أصعب، توقّع طبيعي طالما أنّ الأزمة مذ بدأت في تصاعد مستمرّ.
لا حلول في المدى القريب، أو المتوسّط ولا بارقة أمل تلوح في الأفق المظلم، فيما النّاس ينقسمون بين صابرين على مضض، ولا يعرفون إن كانوا سيقطفون ثمار صبرهم خيرًا، وغاضبين لا يعرفون طريقة للتّنفيس عن هذا الغضب وقد أرتهم الأيام كيف تمّ استثمار غضبهم فيما سمي بثورة 17 تشرين في غير ما كانوا يريدونه ويرغبون به.. وميسورين إلى الآن لم تمسّهم نار العوز لكنّهم يعرفون أنّ النّار لن تلبث أن تطالهم وتحرق ثيابهم ولقمة عيشهم وأحلامهم.. والكلّ صامت صمت القبور.
مَن يصدّق ملهاة انعقاد المجلس كلّ خميس لانتخاب رئيس؟ مَن يتابعها؟ لو سألتَ النّاس في الشّارع عنها لرأيتَهم يبتسمون لك ابتسامات صفراء، صامتة لا تقول شيئًا ولا تشي برأي.
لعلّ العلّة الكبرى هي في حالة التّشرذم التي يعيشها اللبنانيّون، والّتي تتسبّب بها التّدخّلات الخارجيّة، فكلّ طائفة تعمل لصالح قوّة خارجية، والعلاقة بين الدّاخل والخارج تبادليّة فالخارج يدعم والدّاخل يرعى المصالح.. فهل من خرق في الجدار الصّلب في الوقت الّذي نرى فيه القوى الخارجيّة تعيش ذروة تأزّمها وتناحرها.
وقد لا نجانب الصّواب إن قلنا إنّ العالم كلّه يعيش أزمات تشبه أزماتنا وإن لم يكن بالحدّة ذاتها، لعلّه لم يعد في هذا العالم مكان لدول أو قوى لا تسير في ركب ما، في محور ما.
الصّراع العالمي رهيب، وسيطحن برحاه بلدانًا لطالما رأيناها قويّة ومتماسكة، فما بالك بالدّول الضّعيفة المفكّكة التي تعاني من أزمات لا حصر لها مثل لبناننا الحبيب؟
على السياسيين في لبنان أن يجدوا طريقة للتّحاور فيما بينهم، عليهم أن يقدّموا تنازلات، أن يجدوا طرقًا للتفاهم ولرسم خارطة طريق تتيح لهم ترتيب بيتهم الدّاخلي وتحصينه ليكون قادرًا على الصّمود في وجه الرّياح العاتية التي تجتاح العالم.. لكنّهم لن يفعلوا ذلك، اللبنانيون يعرفون أنّ سياسييهم محكومون بالتّبعيّة، ومحكومون بالاختلاف، ومحكومون بالفشل.
وحدها ثورة لا يحرّكها الخارج قادرة على تحرير اللبنانيين من معاناتهم، ثورة تقتلع كلّ مخلّفات الحروب التي مرّ بها لبنان من طائفيّة ومذهبيّة ومحاصصة وخوف من الآخر، ثورة تشبه عاصفة الأديب اللبناني جبران خليل جبران تمحو كلّ ما هو قديم بالٍ وتمهّد لربيع أخضر، ربيع حقيقي.. الأيّام حبلى والمخاض عسير لكنّنا نأمل بولادة لبنان جديد فيما تتمخّض الأحداث العالميّة عن عالم جديد.
د. أحمد لقمان الزين
باحث في الشؤون الاقتصادية والإدارية