كذبة التمدين والعلمنة الأوروبية الأمريكية


تستند تصريحات بوريل، ممثل الشؤون الخارجية لاتحاد الإمبرياليات الأوروبية المعروف بالاتحاد الأوروبي، إلى تاريخ طويل من آركيولوجيا الأكاذيب والعنصرية معا، ففي الحقبة ما قبل الرأسمالية وبحسب أثينا، كان العالم ينقسم بين متمدنين (أحرار أثينا الذين يستثنون النساء والعمال) وبين برابرة متوحشين، وذلك بالتوازي مع جوهر الفكر التوارتي اليهودي (شعب الله المختار مقابل الغوييم الذين يساوون البهائم).
وقد استمرت هذه التصورات العنصرية مع ظهور الرأسمالية والانبعاثات الاستعمارية في شكلها الأوروبي الجديد وأدواته الاستشراقية، وما عرف بالمركزية الثقافية الأوروبية.
وكل ما هو أوروبي ينتمي إلى عالم المتمدنين وما عداه ينتمي إلى عالم المتوحشين، وتحت شعار تمدين هؤلاء جرت كل الحملات الاستعمارية ضد شعوب آسيا وافريقيا وأمريكا بعد اكتشافها، وقد ظهر هذا التمدين إما على شكل إبادات جماعية، راح ضحيتها عشرات الملايين من سكان البلاد الأصليين في البلدان المستهدفة، وإما على شكل احتواء وتوظيف عبودي وباستخدام مفردات حيوانية (ترويض وتدجين).
وعلى خلاف الأوهام التي شاعت بين بعض المثقفين تحت عنوان التمدين بالقوة فلم يكن ما جرى سوى إبادة وتوظيف وإعادة إنتاج للبنى القديمة، ولم يقتصر الأمر على القعود الأولى من الاستعمار بل تواصل ولا يزال يتواصل حتى يومنا هذا بإنتاج مجاميع تغريبية عميلة من النخب وأشباه النخب الثقافية والمدنية العاملة بإسماء وعناوين منظمات ومراكز التمويل الأجنبي المعروفة، سواء كانت مرتبطة بمراكز أكاديمية مثل، كارينجي، هارفارد، ييل، أكسفورد، السوربون وغيرها، وهو ما عبر عنه آرثر كوستلر في كتابه (الدعارة الأكاديمية) والذي كان محصلة تجربة خاصة له، أو كانت مراكز للثورات الملونة والصحافة الاستقصائية ومراكز دراسات حقوق الإنسان وغيرها.
إلى ذلك، وفيما يخص المشهد العربي تعالوا نتمعن في الحالات التالية:
أولا: إن الغالبية الساحقة من الجماعات الأصولية التكفيرية هي من إنتاج العلمانيات الأوروبية والأمريكية، الانجلو ساكسون خصوصا، فبحسب مذكرات بيركهارت، فقد كان هو أحد القنوات السرية بين المخابرات البريطانية والحركة الوهابية، وبحسب المؤرخ البريطاني كورتيس، فإن جماعة حسن البنا هي من إنتاج وإخراج هذه المخابرات، فإذا كان قلم الاستخبارات في شركة الهند الشرقية البريطانية هو الذي تبنى الحركة الوهابية، فإن قلم الاستخبارات في شركة قناة السويس البريطانية هو الذي تبنى جماعة حسن البنا.
ويورد كورتيس عشرات الوثائق التي تؤكد أن الجهاد الأفغاني بكل فصائله وامتداداته إلى المشرق العربي هو محصلة التعاون المشترك بين المخابرات البريطانية والأمريكية والرجعية النفطية.
ومن ذلك أيضا أن (لندن ستان) كما يسميها كورتيس هي التي تقف خلف إنشاء ثلاث دول دينية بعيد الحرب العالمية الثانية، هي الباكستان الإسلامية والكيان الصهيوني اليهودي وجنوب افريقيا المسيحية.
ثانيا: إن الغرب قدم نفسه للشرق ومنذ اللحظة الأولى كوصي على طوائف من سكان الإمبراطورية العثمانية: فرنسا والكاثوليك، روسيا القيصرية والارثوذكس، بريطانيا والبروتستنت وأوساط من الدروز.
ثالثا: بعد نجاح جيوش محمد علي، حاكم مصر في القرن التاسع عشر، وابنه إبراهيم باشا بإبادة الجيوش العثمانية في الشام ومحاصرة إسطنبول وفرار السلطان العثماني، اجتمع قادة أوروبا (العلمانية) وخاصة بريطانيا وإمبراطورية النمسا – المجر وروسيا القيصرية في مؤتمر لندن 1840 وقرروا بتمويل روتشيلد إجبار محمد علي على الانسحاب والدفاع عن السلطنة العثمانية.
رابعا: بعد اندحار الاحتلال العثماني عن سوريا الطبيعية إثر الحرب العالمية الأولى بين الإمبرياليات الأوروبية، وانعقاد المؤتمر السوري العام لكل البلاد السورية (سوريا الحالية، الأردن، لبنان، فلسطين) وتشكيل أول دولة سورية متحدة على أساس دستور عابر للمذاهب، قام الغزو الفرنسي بتمزيق هذه الدولة وتمزيق دستورها العلماني واستبداله بدستور طائفي ولا مركزية لحكومات طائفية، وهو الأمر الذي كرره الغزو الأمريكي للعراق فيما عرف بدستور بريمر (في الواقع الذي كتب الدستور هو الخبير القانوني الأمريكي اليهودي نوح فيلدمان، الذي أعد دساتير مشابهة لفرضها على سوريا وعلى مصر خلال حكم مرسي).
خامسا: أما الحالة اللبنانية منذ عهد المتصرفية إلى توسيعها على يد غورو، فهي شاهد آخر على العقل الفرنسي والأوروبي وأدواته الطائفية وبما يدحض أكاذيبه العلمانية، بل أنه إذا كانت متصرفية جبل لبنان محصورة في طائفتين أساسيتين وجيوب اجتماعية أخرى، فإن فرنسا العلمانية التي قدمت نفسها كحارسة للكاثوليكية في الشرق، قامت وفي مفارقة تبدو غريبة بتوسيع المتصرفية المسيحية – الدرزية بمناطق إسلامية، ليس بمنطق الدمج المدني بل بمنطق توسيع المروحة الطائفية وإبقاء لبنان تحت دائرة التوتر الطائفي كضمانة لتوظيف هذا التوتر.

د.موفّق محادين