الحركة الإسلامية في الأردن تمتنع عن نعي أمين عام حزب الله، السيد حسن نصر الله. وكان معيبًا أن يتباهى معلق سياسي صهيوني على شاشة إحدى الفضائيات ب “توزيع الحلوى”، في أوساط “بعضنا”، احتفاءً بإرتكاب العدو جريمة اغتياله. سبب هذه السلوكات الشاذة، ذلك الصدع القروسطي الأصل والنشأة المعروف بثنائية سنة/ شيعة. لكن الكيان الشاذ اللقيط لم يُقدم على جريمة الاغتيال، لأن حسن نصر الله من شيعة علي بن أبي طالب. ولم يقارف فعلته الغادرة الجبانة، حُبًّا بمعاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد. ونحن نعتذر سلفًا لاستخدام مصطلحي سنة وشيعة، على الرُّغم من أنهما خارج مرجعيتنا الفكرية. ونعتذر أيضًا لاستحضار بعض رموز ماضينا السحيق، لكن أمراض حاضرنا المفخخ بأدواء الإنقسام والتشرذم والتخندق تفرض مصطلحاتها.
اغتالت اسرائيل حسن نصر الله، لأنه قائد مقاوم صلب وقف على رأس قوة منظمة أثخنت في العدو وأقَضَّت مضجعه وما تزال. وكان الانجاز التاريخي للمقاومة اللبنانية، وفي طليعتها حزب الله، تحرير جنوب لبنان عام 2000. فكانت المرة الأولى في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، التي يُرغم فيها العدو على الهروب ذليلًا منكسرًا من أرض عربية احتلها رغم عدم التكافؤ في ميزان القوى. وفي المواجهة التالية مع جيش النازية الصهيونية عام 2006، حقق حزب الله ما عجزت الجيوش النظامية عن تحقيقه. فما تزال حاضرة في الأذهان محارق “الميركافا” فخر الصناعة العسكرية لدى العدو، فضلًا عن فرض توازن الردع مع الكيان.
لم يتوقف حزب الله بقيادة حسن نصر الله يومًا عن مقاومة الكيان الغاصب، ومن هذه المسؤولية التاريخية هب لاسناد فلسطين وغزة في مواجهة العدوان الهمجي بعد السابع من أكتوبر 2023.
لقد رسخ الحزب ثقافة المقاومة كمشروع لا بديل عنه لردع العدو، وتحرير الأرض، والعيش بكرامة. هذه الثقافة، تنهض دليلًا ساطعًا على أن الروح فينا لم تمُت، وأن الجغرافيا العربية ترفض وجود الكيان الشاذ اللقيط والجسد العربي لن يتقبله مهما حاولت أميركا تخديره.
أما وأن الكيان هو العدو التاريخي لأمتنا، فإن اتخاذ موقف عدائي من حزب مقاوم إنما يشير إلى انحطاط سلوكي وشذوذ فكري يصبان في صالح العدو. ويزيد طين هذا الموقف المستهجن بِلَّةً، انطلاقه من أرضية مذهبية، وهو ما يقوم دليلًا على عدم النضوج الفكري والسياسي بمعايير القرن الحادي والعشرين. في السياق، نضيف ما هو أخطر، ونعني أن انطلاق المواقف من شرخٍ مذهبي عمره قرون لهو دليل على أن الماضي برموزه وأحداثه ما يزال فاعلًا في حاضرنا، لجهة تحديد أنماط التفكير وتقرير المواقف والاصطفافات. هنا، نرى أننا وضعنا الإصبع على أحد أسباب تخلفنا عن الأمم، وما تشقى به مجتمعات عربية عِدَّة اليوم، في عصر التعددية وحرية الرأي. وعليه، بات لزامًا على المثقفين تسليط أضواء الفكر النقدي التنويري الحر على ثنائية سنة/ شيعة، لتجفيف منابعها في واقعنا ومسح اثارها الظلامية في رؤوس أجيالنا.
الطامة الكبرى، أن الكثيرين من أبنائنا وبناتنا الشباب بخاصة، يغيب عن وعيهم أن لا علاقة لجذور هذه الثنائية بالدين أصلاً، لكنها لم تلبث أن ارتدت لبوسه بعد مقاتل الطالبيين (نسبة إلى علي بن أبي طالب).
أصل الإنقسام، تنافس عشائري بين الأمويين والهاشميين، له امتداداته قبل الإسلام.
بايجاز شديد يلبي مطلوب هذا المقال وهدفه، لا بد من التذكير بداية أن قصي بن كلاب (الجد الرابع للنبي)، هو الذي أسس مكة، ورفع حظوتها قبل مولد نبي الإسلام بأكثر من قرن. ومعروفة قصة استيلاء قصي بن كلاب على الكعبة، وتأسيسه دار الندوة لقريش في مكة. بعد أن أسس قصي لقريش ما يشبه الدولة الخاصة بها في مكة، أصبح يُلقب ب”المُجَمِّع”، سيد قريش، فجمع بين يديه الوظائف السياسية والدينية، وتشمل ما كان له صلة بالحرم وبسير الحج (كان الحج عند العرب قبل الاسلام). فقد كان يتولى سدانة الكعبة أو حراستها، وكذلك دار الندوة، حيث تجتمع قريش للتشاور والتداول، فضلًا عن اللواء أو الراية، والرفادة أو امتياز اطعام الحجيج، والسقاية، أي تزويدهم بالماء، والقيادة، أي امرة الحملات العسكرية. وكان لقصي بن كلاب أربعة أولاد، هم عبد الدار، وعبد مناف (الجد الثالث للنبي)، وعبد العزّى، وعبد قصي. ترك قصي بعد رحيله، سلطاته ووظائفه لولده البكر عبد الدار دون أخيه عبد مناف. ولم يلبث الحقد أن تملك قلب عبد مناف على مُلك أخيه عبد الدار وما حظي به من تشريف، وراح أبناء عبد الدار وأبناء عبد مناف يتوارثون أحقاد الآباء. وقام كل من الطرفين باستعداء القبائل على الطرف المقابل في إطار التنافس على السيادة ووظائفها.
استقرت السقاية والرفادة والقيادة لبني عبد الدار، ذات فترة. لكنها لم تلبث أن انتقلت إلى بني عبد مناف، بعد ارتفاع شأنهم على أرضية تجارتهم الضخمة وعلاقاتهم المصلحية المتشعبة مع القبائل. وسرعان ما نشب التنافس بين بني عبد مناف، لأسباب عدة أهمها استقرار ألوية الشرف والسيادة والرفادة المنتزعة من بيت عبد الدار لبيت عبد مناف، في يد هاشم بن عبد مناف بالتحديد دون بقية أخوته. بعد رحيل عبد شمس شقيق هاشم عن الدنيا، راودت ولده أمية (جد الأمويين) أطماع الاستحواذ على ما بيد عمه هاشم من ألوية الشرف بالقوة. وهكذا تحول التنافس إلى صراع مكشوف بين أمية بن عبد شمس وعمه هاشم. من هنا، بدأ انقسام بيت عبد مناف القرشي، الذي ينتسب اليه النبي، إلى حزبين: الحزب الهاشمي والحزب الأموي.
بمرور الزمن كبُر الشرخ وتعمق، مع أن مرحلة النبوة أزاحته إلى الظل. لكنه لم يلبث أن أطل برأسه بعد وفاة النبي مباشرة. فقد أراد بنو هاشم ممثلين بعلي بن أبي طالب الخلافة لأنفسهم، من منطلق أنهم آل بيت النبي وأقرب الناس إليه. وتختلف الروايات بشأن مدة امتناع علي بن أبي طالب عن مبايعة خليفة المسلمين الأول أبي بكر. لكنها تُجمع على حصول ذلك، مثلما تختلف حول الأسباب التي دفعت علياً إلى إعلان البيعة لاحقا.
أما الحزب الأموي فقد ظل يتحين الفرصة، متحاشياً الصدام مع أبي بكر وعمر لأسباب عدة ليس هنا مجال ذكرها، حتى واتته إبان خلافة عثمان بن عفان. بعد مقتل عثمان، وفي خلافة علي بن أبي طالب، لم يلبث الصراع بين الحزبين الأموي والهاشمي أن اتخذ طابعاً دموياً. وكان التجلي الأبرز لذلك معركة صفين بين جيشي على ومعاوية، وقد تجاوز عدد قتلاها 70 ألفاً، حسب مصادرنا.
بمرور الزمن، تحول الانقسام إلى انشطار ارتدى لبوس الدين، وهو في الأصل تنافس عشائري على ما أنف بيانه.
فهل يُعقل أن وعينا الجمعي ما يزال في القرن الحادي والعشرين، يتعثر بأحداث أزمنة غَبَرَت، ويتعامل مع تاريخنا بمناظير التمذهب الفتنوي والعصبيات الضيقة؟!!!
ويتملك المتابع المعني، الذهول من حجم الفقر المعرفي بأحداث الماضي ووقائعه، ناهيك بتوظيفها وتفسيرها ضدًّا على وحدة الصفوف، بل واختراقها والعبث بشؤونها الداخلية عبر العصور، وبث سموم الكراهية والبغضاء بين أبناء أمة يُفترض أنها واحدة. وإذا سألتني عزيزنا القارئ عن الخلل، فإننا نراه بداية في هشاشة الواقع العربي ببناه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وأنماط التفكير التي تفرزها. ونراه ثانيًا، في التعليم. تاريخنا يُقدم لأبنائنا في المدارس والجامعات مُغلَّفًا بهالات التقديس وعبادة الرموز، لكي يظل ساكنو القبور فاعلين في حاضرنا، كأنهم يعيشون معنا، موجِّهين ومقررين. مؤسفٌ أن تعليمنا لا يخرِّج أجيالًا متسلحة بوعي نقدي، يؤهلها لقراءة الأحداث بموازين العقل وبمعايير العلم الحديث والمراجعة النقدية الواعية. مناهجنا التعليمية في التاريخ بخاصة والعلوم الانسانية بعامة، ما تزال تعتمد التلقين والحفظ، لتخريج أجيالٍ تسمع وتطيع ولا تحاور أو تناقش باستخدام أساليب التفكير الحديثة. وإذا بحثنا عن الأسباب، فاننا واجدوها في أفاعيل الاستبداد السياسي ورافده الاستبداد الديني، لتدجين الانسان في سبيل تسهيل السيطرة عليه والتحكم به.
لسنا الأمة الوحيدة التي شهد تاريخها مثل هذا الإنقسام، لكن الفرق بين الأمم على صعيد التعامل مع إشكالية تاريخية كهذه، يكمن أولًا وأخيرًا في تحكيم منطق العقل وتغليب المصالح المشتركة واللجوء الى الحوار والتفاهم.
للعلم، الديانة اليهودية فيها خلافات مذهبية ذات نشأة قروسطية أكثر من الإسلام، وهو ما ينسحب على المسيحية أيضًا. لكن أتباع هذه وتلك أخرجوا الدين من ملعب السياسة نهائيا، وأبقوا عليه كشأن تعبدي خاص مكانه دور العبادة. ولا خيار أمامنا نحن العرب سوى فصل الدين عن السياسة، كشرط لا بديل عنه للعودة إلى التاريخ.
في العلاقة بين الإنسان والدين لا يوجد سوى خيارين: إما أن يسيطر الإنسان على الدين أو يسيطر الدين على الإنسان. سيطرة الإنسان على الدين، كما في المجتمعات المتقدمة، تعني فهمه بمعايير زمانه وتفسيره بموازين العقل وشروط العلم وكشوفاته.