جاء استشهاد السيد حسن نصر الله ثمناً لجريمة عظمى اقترفها وتجرأ على تسميتها «وحدة الساحات»، كما استشهد من قبله الزعيم المؤسس للحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعاده لمشروعه الخطير على قوى الاستعمار والذي سماه «وحدة الأمة السورية». وأي جرأة تحلى بها الشهيدان، في تحدّي التغطرس الامبريالي، عندما تخيلّا أن مصلحة الجميع في المنطقة، بمعزل عن الديانات والمذاهب والاثنيات، تكون عبر توحيد الامة التي قسّمها الاستعمار الغربي منذ أكثر من 100 سنة الى كيانات وأشلاء دول، وما زلنا نعيش تداعياتها المأساوية ضعفاً عسكرياً واقتصادياً، وانفصاماً في الهوية. لقد فهم الشهيدان، كل من موقعه العقائدي، أن مشاكلنا الداخلية ومصائبنا هي مجرد عوارض لفقدان السيادة القومية، السيادة التي لا يمكن فرضها إلا من خلال القوة المتولدة من وحدة الامة، وأن فلسطين لا يمكن تحريرها إلا من خلال وحدة ممنهجة للساحات. وقد فهم الغرب الاستعماري أن أي وحدة في المنطقة، مهما كانت متواضعة، يمكن ان تطيح بنفوذه وتقطع الطريق على تدخله في شؤوننا وتضع حداً لنهبه ثرواتنا الطبيعية والبشرية، حتى ان فكرة انشاء خط انابيب نفط من العراق الى لبنان، او حتى سكة حديدية تربط دمشق ببيروت، يمكن ان تطيح بعرش بكامله.
لقد عرض الاستعمار منذ قرن على أنطون سعاده حكم لبنان مقابل التخلي عن فكرة وحدة سورية الطبيعية وتحرير فلسطين، كما عرضوا على السيد نصرالله مجد لبنان ومواقعه السياسية الزبائنية. لكنهما رفضا، كل في زمانه، لأنهما ادركا ان حدود سايكس – بيكو لم ولن ترقى أبداً لتكون أكثر من قضبان لسجن تُستعبد فيها الانظمة، وتهلك فيها القوى السياسية مهما كبر شأنها، والامثلة كثيرة، من صدام حسين الى طغاة الخليج ووكلاء الغرب الاستعماري وذيوله.
عندما نادى سعاده بالعقيدة القومية الاجتماعية كإطار لوحدة أمتنا، هاجمه المستعمر الفرنسي آنذاك، وانقض عليه عملاؤه الانعزاليون وصهاينة الداخل واختلقوا الأكاذيب وفبركوا الاتهامات. وحاولوا تشويه فكره الوحدوي الجامع، واتهموه بالفاشي والنازي والعميل للعدو الإسرائيلي! وهو كان أول من نبّه من خطر الدولة الصهيونية وهجرة يهود أوروبا الى فلسطين، وكان اول من ربط مصير فلسطين بمصير جميع كيانات الامة. فعندما هاجمه بعض الانعزاليين من قصيري النظر، رد بوضوح: «لعلكم ستسمعون من سيقول لكم إنّ في إنقاذ فلسطين حيفاً على لبنان واللبنانيين، وأمراً لا دخل للبنانيين فيه. إنّ انقاذ فلسطين هو أمر لبناني في الصميم، كما هو أمر شامي في الصميم، كما هو أمر فلسطيني في الصميم. إنّ الخطر اليهودي على فلسطين هو خطر على سورية كلها، هو خطر على جميع هذه الكيانات».
كذلك فعل المرتهنون من السياسيين اللبنانيين مع نصرالله، ودعوه لـ«ينأى» بلبنان ويفصل ساحته عن ساحة الصراع في فلسطين، ويقفل جبهة إسناد غزة وفلسطين. ابتسم، وكتب رده للتاريخ بدمه شهيداً.
لكن أدوات الاجرام الصهيونية لا تكتفي بما تفعله من قتل واجرام، حتى بدأت تبث عبر وسائل الاعلام ومنصات التواصل فصولاً من التضليل والتشكيك والتخويف، لأجل خدمة سردية فصل الساحات وسردية الاستسلام. فجأة، انتشرت اخبار أن «إيران باعت المقاومة»، وأن الدولة السورية انقلبت على حزب الله، وصولاً الى حملة التمهيد للعدوان، بالحديث عن اجتياح بري ناجح، وعن تفكك منظومة القيادة والتحكم في حزب الله. ثم أطلّ سياسيون من فاقدي المروءة والعز، ليطلبوا منا الاستسلام قبل فوات الأوان. ووصل السوء بهؤلاء، قبل أيام، حيث انتشرت اخبارهم يوم 30 أيلول بأن المقاومة انتهت، وان المنطقة دخلت في عصر الاستعباد الإسرائيلي.
معلوم لأي خبير ولأي مواطن يفكر بطريقة نقدية، أن أكثرية هذه الاخبار مصدرها حسابات ومجموعات وجدت فجأة على منصات التواصل، وجلها من التي انطلق عملها مباشرة بعد عملية طوفان الأقصى (7 أكتوبر 2023) او بعد الاعلان رسمياً عن استشهاد السيد حسن نصرالله (28 أيلول 2024)، وجميعها تحتوي على عدد ضئيل من المتابعين (followers) واقل من الأصدقاء (friends)، ولكنها تعوض عن ذلك بالدعاية المدفوعة (sponsored ads). فمثلاً هناك مجموعة السلام الواحد (One Peace) التي تم فتحها في 19 تشرين الاول 2023 لتنشر رسائل خنوع واستسلام، وحيث يظهر ترابطها مع حملة «لبنان لا يريد الحرب» التي لم يعرف اللبنانيون هوية اصحابها، برغم انفاقها ملايين الدولارات على حملات، بينها حملة على مئات اللوحات الاعلانية في شوارع لبنان، ولا يزال تمويلها مجهول المصدر.
أما صفحة «من باع السيد؟» فقد ولدت في 30 أيلول الحالي ولديها فقط منشوران (posts) والاثنان مرتبطان بدعاية مدفوعة. الفيديو الأول يصوّر شاب يدعي أنه متألم لموت نصرالله ولكنه فجأة يتهم «الفرس» بقتله والتخلي عنه، ولا يترك شتيمة إلا ويلصقها بإيران، متهما اياها بقتل رئيسها السيد ابراهيم رئيسي ليصل حد القول انها «أنجس من إسرائيل». وقد وُضع على وجه الشاب «فلتر» لجعل التعرف عليه صعبا. ومع أن الصفحة لديها فقط ألفا متابع، تخطى عدد محبي (like) الفيديو الستة آلاف في اقل من يومين، وهذا يعني ان الفيديو وصل الى عشرات الألوف.
وهناك حساب لمن يدعي أنه دكتور فلسطيني باسم عبد القادر حريكاتي وأنه «باحث سياسة الشرق الاوسط والدول العظمى». لا يوجد أي شخص بهذا الاسم في الحقيقة، وحتى صورته تبين أنها وهمية ونتاج برنامج للذكاء الاصطناعي. هذا الحساب على منصة X أُنشئ ايضاً في أكتوبر 2023 وينشر الحقد المذهبي والتشكيك بنوايا المقاومة في جميع الساحات. كل منشوراته يتم تسويقها بمبالغ طائلة ويظهر قرب كل رمز الدعاية الازرق (“Ad”).
الاهم من كل ذلك أن هذه الصفحات والمجموعات ليست مرتبطة بأشخاص أو مؤسسات حقيقية بل هي حسابات وهمية تضخ الدعايات المدفوعة من مصادر مجهولة، الأرجح أن تكون إسرائيلية.
وهناك أيضا مواقع انترنت تضخ أخباراً كاذبة (fake news) مثل موقع «سنا» الذي يتظاهر بأنه الوكالة العربية السورية للأنباء (سانا)، وقد غش كثيرين من الذين لا يدققون بالاسم. ونشرت هذه الصفحة في 27 أيلول تقريرا يتحدث عن اقفال السلطات السورية مكاتب حزب الله في الشام، وانها طعنت المقاومة في ظهرها وتركتها وحيدة في المعركة. وتزامنت هذه الاخبار المفبركة مع الضربات الإرهابية الإسرائيلية التي كانت تهز كل مناطق لبنان، وحيث كان الجميع في حالة الصدمة والحزن، بعد عمليات تفجير أجهزة الاتصال والعدوان الهمجي على بيروت وجنوب لبنان وبقاعه، واغتيال قيادات للمقاومة.
كان واضحا ان هدف هذه الاعمال الدعائية المتزامنة ليس الاساءة الى اشخاص او جهات، بل تعزيز الحملة الممنهجة من اجل فصل الساحات، وبهدف إضعاف إرادة القتال من خلال بث الشك بين الحلفاء وخلق الانقسامات بين قيادات المقاومة وبيئتها الحاضنة، والعمل على بث روح الحقد والانهزام بين المقاتلين والمناصرين. ولو أن عقيدة القتال وروحية المقاومة لم تكن قوية ومتماسكة لكان مقاتلونا هربوا ومناصرونا انفضّوا عن القضية وتركوا ساحة المعركة، كما تركها الجيش العراقي (الذي دربه الأميركي المحتل) بوجه حفنة من ارهابيي داعش في 2014. لكن هذا لم يحدث، والفضل الأكبر هو ثقة الناس بالسيد نصرالله وكلامه ومسيرته وحرصه الدائم على الصدق والدقة وقول الحقيقة مهما كانت مؤلمة، وهي ثقة مستمرة بفعاليتها حتى بعد استشهاده.
ليس هذا العمل الإعلامي المضلل ابداعا للعدو طبعاً. فهو نسخ لتكتيكات ما اعدته الولايات المتحدة ودول أخرى من برامج نشرت حول الحرب الإعلامية النفسية (PSYOP)، والتي تهدف الى إضعاف معنويات المقاتلين وبث روح الشك والخوف والفوضى والتمرد والانقسام. وغالبا ما تكون هذه الحملات مصحوبة بعمليات عسكرية، خاصة عمليات الراية الكاذبة (False Flag)، حيث يتم إخفاء المسؤول الحقيقي عن العملية ويُلقى اللوم على طرف آخر، مثل تفجير مرفأ بيروت واغتيال الرئيس رفيق الحريري وغيرها الكثير من العمليات التي جلبت علينا الفوضى والويلات ولم ينتفع منها إلا العدو الصهيوني وداعمه المستعمر الغربي. ألم تكشف وثائق الاستخبارات الاسرائيلية، كيف ان «الموساد» هو من كان ينفذ العمليات التفجيرية في بيروت خلال الثمانينات من القرن الماضي، ويوقع العمليات باسم «جبهة تحرير لبنان من الغرباء»؟
لكن الحقيقة كانت أكثر سطوعا. بعد جلاء الموقف الإيراني، ودحض كل المشككين، من خلال صليات الصواريخ على كامل ارض فلسطين المحتلة، ومع ثبات رجال المقاومة في الميدان، بخلاف من ظن وضلّ وخاف، فقد عادت المعنويات لترتفع، وتعززت الثقة. وللتأكيد، فإن مصداقية وصدق السيد نصرالله وقيادته الحكيمة، ومسيرة نضاله النادرة، لعبت دوراً أساسيا في صد كل حملات التضليل والانقسام. كما سحق مشروع وحدة الساحات كل الانقسامات التي لطالما استغلها الغرب الاستعماري، خاصة الشرخ المذهبي بين السنة والشيعة. ولا شك أن قوة عقيدة حزب الله والروح الحسيّنية ساهمت في إبقاء الحزب متماسكاً صامداً في أصعب محنه، ولكن يجب لفت الانتباه الى ان القوة المتولدة من العقيدة الدينية، من دون قائد تاريخي يستطيع تخطي الحواجز الطائفية، قد تهدد وحدة الساحات على المدى الطويل. وقد تلعب دورا في الحد من فعالية المقاومة وانتشارها في بلادنا. فكما ترك شعبنا «الدروز يتفزروا مع الفرنسيين» في الثورة التي قادها سلطان باشا الأطرش، فان الخشية كبيرة من عودة الانقسامات لاضعاف الثقة بالمقاومة. وقد حذّر الزعيم سعاده من هذه المغبة بقوله: «لا يمكن توحيد شعور الشعب واندفاعه وراء أية حملة باسم الأمة أو الوطن تقوم بها طائفة واحدة، مهما كانت كبيرة، فلم يمكن قط تحويل أية حركة استقلالية قامت بها طائفة معينة إلى حركة شعبية في طول البلاد وعرضها. الثورة الدرزية سنة 1925 التي سميت «الثورة السورية الكبرى» لم يمكن أن تتحول إلى ثورة سورية عامة، لأنها لم تنشأ بإرادة عامة موحدة».
وينطبق المبدأ نفسه على الثورة الكبرى في فلسطين (1937-1939) ضد المستعمر البريطاني. مع ان الثورة أجبرت البريطاني على استدعاء أكثر من مئة ألف جندي الى فلسطين، في وقت كان عدد سكان فلسطين لا يتعدى المليون (أي كان هناك جندي بريطاني لكل 10 فلسطينيين وهذا لا يتضمن في الحساب العصابات الإرهابية الصهيونية!)، استغرق امر سحق الثورة ثلاث سنوات، ولو إن الامة السورية كانت موحدة آنذاك وتصرف العراقي والشامي واللبناني والأردني على اساس أن انقاذ فلسطين هو أمر يخصهم في الصميم لكان من المستحيل أن تُهزم، ولكانت فلسطين بقيت بيد شعبها وأهلها. والجدير بالذكر هنا أن تركيا وإيران هما الأمتان الوحيدتان في المنطقة اللتان استطاعتا ان تصدا مشاريع الاستعمار آنذاك، والسبب بعينه هو الوحدة الداخلية والقوة العسكرية لكل منهما.
أما في بلادنا وبرغم كل التجارب القاسية، فما زلنا نسمع أصوات الانعزاليين والتقسيميين والحياديين ينادون بفصل الساحات، كأن فلسطين أرض على كوكب او حتى مجرة أخرى. ولا يزال الغرب الاستعماري يستغل ضياع هويتنا ويحرّض على المزيد من الانقسام بين ابناء امتنا. بينما يستمر العدو الصهيوني في محاولته تنفيذ خطة تقوم على سرقة أرضنا وضرب جيوشنا وبث العمالة والاستسلام بين شعبنا، من اجل خدمة مشروع التوسع الاستيطاني في هذا الشرق العزيز.
قبل ايام (25 أيلول 2024)، وفي خضم حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية ضد فلسطين ولبنان، نشرت صحيفة «جيروزالم بوست» مقالاً بدأه كاتبه بسؤال: «هل لبنان جزء من الأراضي الموعودة لإسرائيل؟». ثم رد على نفسه بالإيجاب. وأشار أن «المنطقة الشاسعة تشمل أجزاء من إسرائيل الحديثة والضفة الغربية وغزة ولبنان وسوريا والأردن والعراق» ليقول في خلاصته: «قد لا نكون قادرين على استعادة كل ذلك في عصرنا، لكن الله سيعيدها إلينا قريبًا بالتأكيد». صحيح ان الجريدة حذفت المقال على الفور. لكن أمكن لعدد من المواقع الإلكترونية أرشفته. وفي هذا المقال عبرة لأولئك الذين ما زالوا يعتقدون أن الصهاينة سيتوقفون عند حدود فلسطين والجولان وجنوب لبنان. وربما يجب مخاطبتهم مباشرة: سيتعين على أطفالنا وأحفادنا خوض هذه المعركة إن لم نفعل نحن ذلك. وإن واجب كل شريف، وحر في هذا الشرق إزالة هذا الكيان السرطاني من منطقتنا. أو سنهلك جميعًا ونصبح عبيداً لهذا الشر المطلق. ولا طريق للانتصار عليه إلا بالوحدة، وحدة الساحات، ووحدة الامة. اعملوا من اجلها، او اندثروا من دونها. كما إن مهمة كل مناصر للمقاومة وكل محب لفلسطين وكل عاشق للسيد حسن وكل متعاقد مع الزعيم سعاده، أن يعمل لصيانة وحدة الساحات وتوسيعها لتشمل وحدة الامة ووحدة الهوية ووحدة الوطن. فلا قوة من دون وحدة، ولا حرية وازدهار من دون القوة. فلنجاهد من اجل الوحدة والقوة ولننبذ الانقسام والضعف قبل فوات الأوان.
* مدير قسم معهد الدراسات الإعلامية في الجامعة اللبنانية الأميركية