الاسباب الموجبة لتعديل دستور سعاده ووجهة هذا التعديل – الحلقة العاشرة 

قانون الانتخابات العامة والمجلس القومي والمؤتمر العام.

إن وضع قانون جديد للانتخابات العامة في الحزب هو التحدّي الأكبر والأصعب. هذه هي المسألة التي يجب أن تحظى بالعناية الفائقة والتفكير العميق والمعرفة الصحيحة بالمرتكزات والمنطلقات والمفاهيم الجديدة التي جاءت بها الفلسفة القومية الاجتماعية ونظرتها الى الحياة. وإن أهمّ هذه المفاهيم هي ضرورة توفّر مؤهلات عالية في رجال ونساء السلطة العليا في الحزب- الدولة، وإن هذه المؤهلات لا تقررها انتخابات بل إمتحانات. إن الانتخابات هي لقياس مدى قبول المرشحين من قِبَل الشعب- مصدر السلطة وليس لقياس أهليتهم. إن شروط الأهلية وقياسها هي موجودة في شروط الترشح للانتخابات، أي أنه يجب أن تكون متوفرة في المرشحين قبل قبول ترشيحهم وقبل إجراء الانتخابات.

إن الغفلة عن هذا الأمر هو بالضبط ما أدّى الى “الخوف من الانتخابات” بحجة الخوف من أن تؤدي الانتخابات الى وصول غير المؤهلين الى السلطة وكأن الانتخابات ونتائجها هي لفرز المؤهل عن غير المؤهل، وهذا غير صحيح. الصحيح هو أن الانتخابات هي لقياس مدى تأييد الشعب لهذا المؤهل أو ذاك. إن الانتخابات هي لانتقاء عدد قليل من بين عدد كبير من مرشحين كلهم مؤهلين. إن أغلاطاً كبيرة وإلتباساً وتشويشاً في فهم الأمور الأساسية قد أدّى الى كل هذه الارتباكات والأزمات ثم الصراعات والانقسامات المدمِّرة، وبالتالي الى هذا التباين والتضارب والتناقض في الآراء والاقتراحات في موضوع انبثاق السلطة في الحزب بعد استشهاد الزعيم.

وفي هذا المجال نريد التركيز هنا على أمرين إثنين هما علاقة الانتخابات بالمؤتمرات ثم مشروعية أو عدم مشروعية ما سمّيَ بالمجلس القومي ومهمته.

1 –  لا توجد علاقة بين المؤتمرات والانتخابات، وأهداف كل منهما مختلفة عن الأخرى.

المؤتمرات تُعقد عند الحاجة فقط وتكون مؤتمرات دراسية اختصاصية مثل مؤتمر المدرسين أو المحامين أو الأطباء…الخ

وفي حال بروز حاجة لعقد مؤتمر دراسي معيَّن يجب أن تبقى أجواء المؤتمر أجواء دراسات ونقاشات لا يحضرها إلّا أصحاب اختصاص وإجازة في موضوع المؤتمر.

 أمّا أن يكون المؤتمر عامّاً ودورياً يعقد قبل كل انتخابات عامة فهو تقليد أعمى للأحزاب الاشتراكية وليس له مسوغ في الفكر الدستوري القومي الاجتماعي.

إن عقد مؤتمر عام في الحزب يجوز في حالات استثنائية طارئة فقط كوجود مشكلة كبيرة في الحزب ووجود تضعضع وانقسام يتوجب حلّه بواسطة مؤتمر عام يعقد لهذه الغاية تحديداً. وكون هذه الحالة استثنائية غير دائمة فلا يجوز أن تصبح تقليداً دورياً ولا يجوز أن تصبح نصّاً في الدستور. يجب فصل المؤتمرات عن الانتخابات لأن لا علاقة لهذه بتلك.

 والمؤتمرات ينتج عنها توصيات وليس قرارات. توصيات المؤتمر هي لمساعدة السلطات الحزبية وليست لفرضها عليها فرضاً وإلزامها بتنفيذها. ذلك لأن المؤتمر ليس سلطة دستورية أعلى من السلطتين التشريعية والتنفيذية في الحزب.

أما في حالة استثنائية جداً مثل حالة الحاجة الى إتخاذ قرار تاريخي خطير، أو معالجة إنقسام خطير، فيمكن إستثنائياً التوافق على أن تكون التوصيات إلزامية، لكن فقط إذا كانت بإجماع كبير. والإلتزام هنا هو أخلاقي وليس قانوني، أي أن السلطة الحزبية لها أن تحترم ما يجمع عليه أعضاء الحزب في مؤتمرهم بنسبة كبيرة ولكن القانون لا يجبرها على ذلك.

نقول إن الإلتزام بتبنّي التوصيات يقتضي أن تكون هذه التوصيات حاصلة بإجماع كبير، لأنه إذا نتج عن المؤتمر توصيتان مختلفتان أو أكثر فلا يمكن أن تكون هاتان التوصيتان المختلفتان إلزاميتين! فعلى أي منهما يجب أن يتم الإلزام الإلتزام؟؟

2 – المجلس القومي الحالي يجب إلغاءه لأن لا دور له عندما تتقرر دعوة جميع القوميين لانتخاب المجلس الأعلى في مديرياتهم.

إن المهمّة الرئيسية للمجلس القومي الحالي المستحدث في الدستور هي مهمة انتخابية بالدرجة الأولى. وكل ما يتم تداوله حول مهمات المراقبة والمحاسبة هو في الحقيقة خيالات غير حقيقية وغير واقعية، ولا يوجد آلية حقيقية فعلية لأي نوع من مراقبة ومحاسبة منوطة بالمجلس القومي الحالي. وعلى كل حال، لا مؤسسة دستورية في الحزب هي أعلى من سلطة المجلس الأعلى كي تراقبه وتحاسبه. إن المجلس القومي كما هو معمول به حالياً هو في الحقيقة “واسطة انتخابية” فقط لا غير، فبدلاً من أن يكون القوميون هم فعلاً وعملياً مصدراً للسلطات ينتخبونها مباشرة، كما تقتضي الديمقراطية، مُنِعوا تعسّفاً من ممارسة حقهم الانتخابي للسلطة التشريعية وسُمِح لهم فقط بانتخاب مَن ينتخب عنهم، في فذلكة غريبة عجيبة بذريعة أن “عامة القوميين” هم غير مؤهلين لينتخبوا ويختاروا مَن يثقون به مِن المرشحين المؤهلين لتولّي السلطة، وإنهم مؤهلون فقط لينتخبوا مَن ينتخب عنهم، أي لينتخبوا أعضاء المجلس القومي، وأعضاء المجلس القومي هؤلاء هم مؤهلون أكثر كي ينتخبوا السلطة التشريعية، وكأن الانتخاب يحتاج لأهلية أو كأن الانتخاب وظيفته إنتقاء الأكثر أهليّة من المرشحين، وكأنّ شروط الأهليّة تقررها الانتخابات وليس الإمتحانات!!

ولماذا يكون عضو المجلس القومي أكثر أهلية منك لينتخِب هو وليس لتنتخِب أنت أعضاء المجلس الأعلى؟ وإذا كان عضو المجلس القومي يكتسب أهليته بمجرد أن تنتخبه أنت معنى ذلك أن الأهلية تُكتسَب بالانتخاب، وهذا غلط لأن الأهلية لا تُكتسَب بالانتخاب بل بالإمتحان. وإذا كان عضو المجلس القومي يكتسِب أهليته بمجرد أن تنتخبه أنت معنى ذلك أيضاً أنك أنت مؤهل لإختياره، فلماذا لا تكون أنت مؤهلاً لإختيار عضو المجلس الأعلى رأساً؟

لكن لا، لا الانتخاب يحتاج لأهليّة، ولا الأهليّة  تُكتسَب بالانتخاب.

ثم أن “المجلس القومي” الراهن ليس مجلساً حقيقياً!! إن المجالس هي بالحقيقة سلطات، إنها مؤسسات يكون عندها سلطة إتخاذ قرارات. إن المجالس تعقد جلسات وتتخذ قرارات، مثل المجلس الأعلى أو مجلس العمد أو مجلس المنفذية، أو المجلس البلدي في أصغر ضيعة سوريّة، ولأنها تعقد جلسات وتتخذ قرارات فقد سمِّيت مجالس. أمّا المجلس القومي الراهن فلا يعقد جلسات ولا يتخذ قرارات لأنه ليس سلطة لا تنفيذية ولا تشريعية ولا قضائية، ولا سلطة في الحزب غير هذه السلطات الثلاث، إنه فقط هيئة انتخابية فكيف نسمّيه مجلس؟! كيف يكون “مجلس” وهو لا يجلس، أي لا يعقد جلسات وليس له سلطة إتخاذ قرارات؟!

صحيح أن تسميتنا لهذه الهيئة الانتخابية مجلساً أو غير ذلك من الأسماء هي مسألة شكلية وليست جوهرية، ولكن الأكيد إن فكرة المجلس القومي هي وليدة تسوية بين فكرتين: الأولى هي فكرة تحريم الانتخابات العامة التي سيطرت في الحزب في عهد رئاسة جورج عبد المسيح، وهذه الفكرة بدورها هي وليدة فهم خاطئ لمعنى “التعبير عن الإرادة العامة”، حيث كان يُفهم أن التعبير عن الإرادة العامة يعني أن الأمناء يعبرون عن القوميين وينتخبون عنهم، وهذا فهم أقل ما يقال فيه إنه ساذج وسطحي وخاطئ. والثانية هي الفكرة الشائعة في العالم التي تساوي بين الديمقراطية والانتخابات وكأن كل ديمقراطية تعني انتخابات وكل انتخابات تعني ديمقراطية، وهذه الفكرة خالفها سعاده عندما قال بالإستبداد الديمقراطي وبأن الثقة المطلقة هي أساس ديمقراطي[1]، مما يعني أنه للديمقراطية مبدئياً طريق غير طريق الانتخابات.

إن التسوية بين تلكما الفكرتين الخاطئتين نتج عنها فكرة هجينة هي فكرة “نصف انتخابات” التي تقول إن القوميين لا يجوز أن ينتخبوا السلطة التشريعية بل يجوز لهم فقط أن ينتخبوا من ينتخب السلطة التشريعية عنهم!!

نعود ونكرر ونقول إن هذا المجلس القومي الذي أُريد منه أن يكون مؤهلاً لانتخاب المجلس الأعلى هو فذلكة غريبة وعجيبة، لأن المؤهلات يجب أن تتوفّر في أصحاب السلطة وليس في مصدر السلطة. إن اعتبار الناس أن منهم مَن هو مؤهل لأن ينتخِب ومنهم مَن هو غير مؤهل لأن ينتخِب هي بدعة غريبة تتناقض مع الديمقراطية ومع “حق إبداء الرأي” لكل عضو في الحزب كفلها له الدستور في مادته الثامنة. إن الانتخاب هو حق للجميع في الديمقراطية القومية كما في سائر الديمقراطيات في العالم. إنه مثل حق إبداء الرأي الذي لا يفرِّق بين الأعضاء ولا يصنِّفهم مؤهل وغير مؤهل. وإذا جاز الكلام عن مؤهلات يجب أن تتوفر في المقترعين فهي مؤهلات إبتدائية فقط مثل الصحة العقلية والشعور الوطني ونظافة السجل العدلي، وليس المؤهلات العلمية والمعرفية من أي نوع.

الانتخاب هو لمعرفة مَن مِن المرشحين هو الأكثر قبولاً من الشعب، الأكثر تأييدا له من الشعب، والأكثر حيازةً للثقة من الشعب، وليس لمعرفة من هو المؤهل من بين المرشحين. وتبعاً لذلك فكل فرد من الشعب يحق له أن يؤيد أو لا يؤيد هذا المرشح أو ذاك. المرشحون لا يكتسبون صفات الأهلية من المقترِعين بل يكتسبونها عندما تتوفر فيهم شروط دستورية معينة تتحقق منها وتوافق عليها سلطة قضائية دستورية. وهذه الشروط هي التي تسمح لهم بالترشح لإمتحان مدى قبولهم وتأييدهم من قِبل مجموع الحزب. الانتخاب هو لإعطاء الثقة بالمرشحين وتعيين مقدار هذه الثقة، وليس لمنح الأهلية لهم أو لإنتقاء الأكثر أهلية منهم.

الانتخاب هو للإختيار الحر بين الجيد والجيد، إنه لإختيار عدد قليل من بين مرشحين كثر كلهم جيدون مؤهلون لتولّي السلطة لمجرد أنهم كلهم أمناء تقررت أهليتهم عند حصولهم على رتبتهم وعند قبول ترشحهم قبل الانتخابات وليس خلالها وليس بعدها.

إن القول بأن أعضاء المجلس القومي هم أكثر أهلية من سائر الأعضاء لممارسة انتخاب السلطة العليا لا مبرر له إطلاقاً، فالانتخاب لا يحتاج لأهلية. إن الانتخاب هو حق للجميع، وحجب هذا الحق هو تزوير للمبدأ الديمقراطي ولمبدأ أن القوميين هم مصدر السلطات!


[1]   راجع مقالة الزعيم ” مرشحو الديمقراطية” ومقالة “النيابة والاستبداد”، تاريخ 15-10-1937 وتاريخ 7-3-1938.