حرب العض على الأصابع: من الضاحية إلى حيفا

حرب العض على الأصابع: من الضاحية إلى حيفا

تزامنت ضربة (إسرائيل) للمقاومة اللبنانية في عملية أجهزة الاتصال مع حديث متواصل لأركان الحكم في تل أبيب عن العمل والوعد بإعادة مستوطني الجليل، الذين هجرتهم المقاومة اللبنانية منذ مطلع الحرب، إلى أماكن استيطانهم، بعد أن أجبرتهم على الفرار بعيدا عن مصالحهم ومزارعهم ومصانعهم، الأمر الذي ادركته المقاومة وأمين عام حزب الله، حيث كانت النقاط المركزية في خطابه عقب تلك الضربة أن المقاومة اللبنانية ستبقى تشاغل العدو وتساند غزة ولم تثنيها الضربة عن القيام بواجباتها، وان مستوطني الجليل من (الإسرائيليين) لن يعودوا طالما الحرب في غزة متواصلة، وان الحساب قادم وعسير مذكرا بقواعد الاشتباك ومهددا من تجاوزها.

كان أمين عام حزب الله واضحا وصريحا، على جاري عادته، خاصة عند تأكيده على أن الضربة كانت بالغة ومؤلمة وغير مسبوقة وأنها تستدعي دراستها بتأن بعيدا عن الانفعال، فهي تحتاج لإعادة قراءة الموقف وحالات الاختراق بشفافية ومسؤولية وإدراك أماكن الضعف ومعالجتها بعيدا عن التبريرات الثرثارة من جانب أو الشعور بالإحباط من جانب آخر أو الالتفات لأقوال الشامتين المغرضين من جانب ثالث. ولكن الأمر الأكيد إننا لسنا بخير وان الأمر الذي يفوقه تأكيدا أننا لن نيأس فهي طريق من خط واحد لابد من السير بها حتى نهايتها، وان علينا أن نعمل لان نكون بخير.

يمكن الحديث طويلا عن طبيعة العدو وعن ثقافة العدوان والإلغاء والقتل والتوحش التي قامت دولته عليها دينيا وثقافيا وسياسيا، وهي مجال بحث ودراسة لا ينضب، ولكن ما يهمنا في هذه السنة هو التعامل مع يوميات الصراع وضمن مفهومها الاستراتيجي البعيد ومنها مجموعة من النقاط:

  1.  إن قرار الاشتباك مع لبنان وضرب المقاومة اللبنانية هو قرار قديم وتم الاستعداد له من قبل السابع من تشرين أول الماضي، وهذا القرار لم ينفذ في حينه بانتظار مجموعة من المسائل منها استكمال عملية تطبيع مع دول عربية جديدة وعلى راسها السعودية، ومنها الدفع باتجاه توتير الوضع اللبناني الداخلي وصولا للحرب الأهلية، ومنها المسائل الأمنية والعسكرية التي يتم الإعداد لها في نطاق من السرية، ثم في حاجة (إسرائيل) الى ضوء اخضر أمريكي لم يتوفر لها حتى الآن، وإنما الذي توفر لها هو ضوء برتقالي سببه غياب جزئي ومؤقت للقدرة الأمريكية على الزام دولة الاحتلال بقراراتها وذلك بسبب المعركة الانتخابية الحارة في واشنطن.
  2. التقدير (الإسرائيلي) بان هذه الحرب قد استطاعت، بعد اقترابها من إكمال سنتها الأولى، من خلق واقع جديد ومن قلب مفاهيم جعلت من الدولة العميقة للاحتلال تشعر بالتهديد الوجودي، وان حسم هذه الحرب لصالحها غير كاف، لذلك يجب العمل على تغيير الخرائط كما حصل في مطلع القرن العشرين عندما نشطت القوى الاستعمارية في رسم خرائط بلادنا قسمت بها الوطن وصنعت الهويات الفرعية والكيانات الصغيرة، لذلك يجب إعادة تشكيل الشرق الأوسط من جديد كما قال نتنياهو وبما يؤدي الى اختفاء دول وظهور أخرى، وانقراض حكام واستيلاد حكام جدد. نرى ذلك في قول ترامب بان (إسرائيل) دولة صغيرة تحتاج الى مزيد من الأرض، ونرى ذلك أيضا في العمل المدروس الذي تقوم به دولة الاحتلال لإنهاء السلطة الفلسطينية التي تشكلت بموجب اتفاق أوسلو عام 1993 بغض النظر عن صمتها إزاء جرائمه وتنسيقها الأمني والإداري معه، ثم العمل على تمزيق اتفاقية وادي عربة مع الأردن الموقعة عام 1994 والتهجير لسكان الضفة الغربية للأردن بما يؤدي الى زوال الأردن كدولة بشكلها الحالي ثم التهجير الى سيناء وشطب الاتفاقيات التي عقدتها مصر مع (إسرائيل) بدءا من اتفاقية كامب ديفيد عام 1978 وما تلا ذلك الاتفاق من ملاحق.
  3. إن نتنياهو يريد الحرب الواسعة لأنه بذلك يستطيع بهذه الحالة زج العالم الغربي في أتون الصراع المباشر لا الدعم غير المحدود فقط كما هو الآن، لذلك يحاول أن يستنفذ الصبر الاستراتيجي لكل من طهران والضاحية الجنوبية ووضعهم أمام حالة صعبة تجبرهم إما على الرد والتدحرج باتجاه الحرب الطاحنة التي لا تريدها طهران، وهي مسألة يستفيد منها نتنياهو بتحويل منظور الصبر الاستراتيجي الى منظور العجز الاستراتيجي وفي هذه الحالة يكون قد استعاد قدراته الردعية من جانب وحقق نصرا دون حرب من جانب آخر.
  4. كان هدف الاحتلال الأول الذي أعلنه في تشرين أول ماضي هو إطلاق سراح من أسرتهم المقاومة وإفراغ شمال غزة من ساكنيه وبما يؤمن للمستوطنين الساكنين في غلاف غزة العيش بعيدا عن نيران المقاومة، واليوم يدعي نتنياهو أن الهدف من التصعيد مع المقاومة اللبنانية هو في إعادة مستوطني الشمال الى أماكن وجودهم السابقة وإبعاد المقاومة الى شمال الليطاني، مفترضا أن ذلك يقي أهل الشمال من صواريخ المقاومة بالمستقبل وهو هدف ولا شك قد يجد من يتفق معه عليه إن في الداخل اللبناني أو في المحيط العربي أو الدولي.

لكن هل يستطيع (الإسرائيلي) ذلك، طبعا لا كبيرة انه لن يستطيع، وان كان علينا توقع حصول أكثر من عمل تخريبي مرعب وقوي يماثل ما حصل في قصة أجهزة الاتصال أو في اغتيال القائد إبراهيم عقيل، الأمر الذي لن يردع المقاومة ولن يجبرها على التخلي عن مساندة غزة أو إبقاء مستوطني الشمال خارج الجليل وهذا ما أثبته ليالي الصواريخ التي أعقبت قصف الضاحية مهجرة المزيد من المستوطنين، وفي شعاع يتجاوز الجليل ليصل الى حيفا على الساحل ومرج ابن عامر القريب من شمال الضفة الغربية والتي لم تبق أحدا نائما في دولة الاحتلال.

قد لا يكون بيننا وبين الاحتلال تناظر في السلاح أو التكنولوجيا أو في العلاقات الأمنية العالمية المعقدة، ولكن لدينا ما هو أكثر من تناظر، بل تفوق بالقدرة على الصمود والثبات، والمعركة لازالت طويلة وقد تكون في بدايتها شمالا ولن تقل دموية عن الحرب في جنوب فلسطين وهي، كما في الأمثال الشعبية، عض على الأصابع. من يصرخ أولا هو من يخسر.

جنين- فلسطين المحتلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *