إنّ قومية المجتمع هي إحدى الشرطين الأساسيين لمبدأ “سـيـادة الـدولـة الـقومـيـة”، بوجهيها الداخلي والخارجي، أما الشرط الثاني، لاكتمالها، فهو حصول الوجدان الحيّ (الشعور بوحدة الحياة ووحدة المصير) لهذه القومية؛ وهذا واضح في التعاليم السورية القومية الاجتماعية، خصوصا في المبدأ الأساسي الأول منها، الذي فيه وحده، ولأول مرّة في تاريخ الأمة السورية، توحّدت عقائدها الاجتماعية، وتعيّنت حقوقها القوميّة، واتضّحت هويتها الجامعة، وتوضّحت شخصيتها الوطنية، وتحدّدت أهدافها المصيرية، وصار لهذه الأمة من خلال هذه التعاليم المبتكرة المستمدة من تاريخ هذه الأمة قضية لحياتها ورقيها، ورسالتها الفلسفية الجديدة الشاملة إلى الحياة والكون والفنّ . ونظرا لأهميّة المبدأ الأساسي الأول في تأسيس حياة الأمة، فقد طالب سعادة كل سوريّ يرغب في أن يرى أمّته حرّة، سائدة ومرتقية، أن يحفر هذا المبدأ حفرا عميقا على لوح قلبه. وإذ حدّد هذا المبدأ في جوهره وحدة الأمّة – الأمة مجتمع واحد – فهو مبدأ مقدس، يحمل في أبعاده الوحدوية، مصلحة الأمة التي هي فوق كل مصلحة، والعمل لهذه المصلحة هو مقياس الوعي والإيمان، وقد كان سعادة حازما جازما في أمر قومية المجتمع ووحدته، ومصلحته حتى أنّه اعتبر كلّ متنكّر لهذه الحقيقة مجرما، فقال : ” إن الذين لا يقولون بأنّ سورية للسوريين وبأنّ السوريين أمّة تامة، يرتكبون جريمة تجريد السوريين من حقوق سيادتهم على أنفسهم ووطنهم…..”، أجل إنّه “أول حكم دستوري” بالاعدام، بتهمة الخيانة العظم، يصدره سعادة باسم الشعب السوري بحقّ المتنكرين واامتنازلين عن الحقوق والسيادة القومية الممثلين بهذا المبدأ المقدس: “سورية للسوريين والسوريون أمّة تامة “، الذي يعني حياة الأمة في الحرية والارتقاء والخلود.
إنّ قومية المجتمع، وأبرز ظاهراتها العصرية وحدة الدورة الاجتماعية والاقتصادية والإستراتيجية في وحدة حياة ووحدة مصير، هذه الوحدة التامة، التي من شأنها إنقاذ الأمة من النعرات السلالية والدموية، والطائفية، والمذهبية، والكيانية.. ففي قومية المجتمع، تنتصر القيم الكبرى الموحدة لشؤون الحياة المعقدة والمتطوّرة، وتسود مبادئ العدالة والتساوي في الحقوق، والواجبات المدنية، والسياسية والاجتماعية.
إنّ قومية المجتمع – عصبية الأمّة، وتنبّه الوجدان الحيّ لهذه العصبية، هما قطبا السيادة القومية الحقة، ” سيادة الشعب الشاعر بكيانه على نفسه، وعلى وطنه الذي هو أساس حياته، وعامل أساسي في تكوين شخصيته، فإذا لم يكن السوريون أمّة تامة، لها حقّ السيادة، وإنشاء دولة مستقلة، لم تكن سورية للسوريين تحت مطلق تصرفهم، بل كانت عرضة لادعاءات سيادة خارجة عن نطاق الشعب السوري، ذات مصالح تتضارب، أو يُحتمل أن تتضارب مع مصلحة الشعب السوري في الحياة والارتقاء”- سعاده.
إنّ حقيقة قومية المجتمع التامة، وحصول الوجدان الحيّ لها، تُعتبر أرقى ظاهرة حضارية عرفها الإنسان حتى اليوم، وهي تمثّل قمّة العقل السوري في عطاءاته الثقافية الثورية التقدميّة، التي تجلّت بها قيمة الفكر القومي الاجتماعي كنظام كوني جديد، يُنقذ البشرية من الصدام المدمّر بين مادية متوحشة، وروحية خانعة مستسلمة للقضاء والقدر والأمر الواقع، والواقع المفعول.
إنّ قيمة المجتمع هي في بعثه ونهضته وقيامته وانتصار قوميته وقيمه وقيام وحدته الداخلية المتينة، وصيانة مصلحته العليا.. فالسيادة القومية لا معنى لها، خارج سيادة الدولة المنبثقة من الأمّة التامة المعبرة عن حقوقها ومصالحها الحيوية. وإنّ التنازل عن الصراع في معركة تحقيق قومية المجتمع بأبعادها المصيرية، معناه الرضوخ للأمر الواقع، والانحدار السريع نحو مخاطر التجزئة والاقتتال والانحلال و. وما نشهده اليوم في بيئة الهلال السوري الخصيب ما هو إلا نموذج لما تقدم؛ حيث تتحكم به فسيفساء من “السيادات” الكيانية المفتعلة التي لا تدور على محورها الطبيعي، بل تتخبط على محاور متنافرة، تتصادم مع بعضها البعض، ويُعطّل واحدها الآخر، وستدمّر، إذا بقيت على هذه الحال، عاجلا ام اجلا، خصوصا أنّ السرطان اليهودي ينخر منها العظم، و تلافيف الدماغ فيها !!
إنّ انعدام قومية المجتمع في هذا الزمن العصيب الذي تمرّ به أمتنا، هو الذي يجرّ على شعبنا هذه الويلات والمخاطر والتصدعات الكبرى على مختلف كيانات الأمة، لاسيما ما تشهده فلسطين على يدّ المشروع اليهودي العنصري من أبشع أشكال إلغاء الآخر التي عرفها التاريخ الإنساني!!
من ينظر من فوق، إلى كيانات الأمة السورية، يرى كلّ كيان منها سابحا في بحر من الجزر الطائفية المذهبية السياسية، التي يفوق عددها مساحة كيلومتراته، وهي تمتدّ بعيدا، متجاوزة “حدوده” لتتوزع بكلّ مآسيها وتداعياتها في بلاد انتشار أبنائه في العالم.
الجزر الطائفية – المذهبية – السياسية في هذه الكيانات، متعدّدة الاتجاهات، والأهداف، والغايات، والرؤى. لا عقيدة تجمعها، ولا بوصلة توجهها نحو الحقيقة.. تتحكم بها ثقافة الخوف من الآخر، والتربص به، والاستعداد للانقضاض عليه وإلغائه؛ هذه الجزر أحزابها السياسية طوائف ومذاهب، وطوائفها ومذاهبها أحزاب سياسية، أخلاقها وقيمها ومثلها وعاداتها وتقاليدها وأنظمتها طائفية ومذهبية، حتى لا طائفيتها طائفية مذهبية إقطاعية!
أمّا “مرشدو” هذه الكيانية القط عانية فعصبة من الانتهازيين والسفلة والوصوليين واللصوص والقتلة والسفاحين، وقطاع الرقاب، والطرق، والأرزاق.
ألمثل هؤلاء “المرشدين” الموبوئين بسموم الرجعية والتخلف تُعطى مهمة رعاية أبنائنا وتربية أجيالنا وبناء مستقبلنا؟
ألمثل هؤلاء الخارجين عن القيم والأخلاق والمبادئ وشرعة الحياة والنصوص الدستورية والقانونية، أُعطي لهم “الحقّ” أن يصنّفوا المواطنين، في “هويات” كيانية وطائفية وإقطاعية.. ومن لبنان النموذج في تصنيف المواطنين بين لبنانيين وغير لبنانيين على قاعدة مجهولة هي “نهائية الوطن”! فهم “شعب لبنان المختار” بموازاة “شعب الله المختار”، وذلك خلافا لمقدمة “الدستور اللبناني” الذي نصّ على أنّ: “لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه”، ووصلت بهم عدائيتهم إلى اعتبار لبنان غربي الانتماء والمصير، أو يهودي الهوية، خلافا لمقدمة الدستور: “لبنان عربي الهوية والانتماء”!، كما وصلت بهم “عبقريتهم” إلى اعتبار كلّ صاحب ذي عقيدة لا يقرّ بخزعبلاتهم ومغامراتهم ونير ونيتهم، هو عدوّ للبنان، خلافا لما جاء في مقدمة الدستور:” لبنان جمهورية.. تقوم على احترام الحريات العامة، وفي طليعتها حرية الرأي والاعتقاد..”. كما وصلت بهم عنصريتهم، إلى اعتبار كل من يخالف بهلوانياتهم السياسية في مفاهيم الوطن والانتماء، هو عدوّ للبنان، خلافا لمقدمة الدستور:”فلا فرز للشعب على أساس أيّ انتماء”.
إنّ تداعيات انعدام قومية المجتمع ووحدته في أمتنا، ومن أخطر مظاهرها تفريغ المجتمع من شبابه المنتج والقوي عن طريق “هجرة الأدمغة” واليد العاملة، توجب السعي الجدي والسريع إلى اتخاذ سلسلة من الإجراءات العملية المؤدية إلى وقف حالة التدهور، ويأتي في مقدمة هذه الإجراءات:
أولا: العمل الجديّ والسريع على إيجاد “منظومة سيادية”، معبّرة عن وحدة المجتمع، تضمّ مجموعة القوى الممانعة والمقاومة المنتشرة في كيانات الأمة السورية، تضع على نفسها المهمة الرئيسية الأولى، التي هي التعبير عن الوحدة السيادية في القضايا والمسائل القومية، وتكون لها القوّة الضرورية لفرض هذه السيادة.
ثانيا: في سياق قومية المجتمع ووحدته، وحماية أبنائه، العمل على تنظيم انتفاضة شعبية كبرى تجتاح العالم العربي من محيطه إلى خليجه، في مسيرة لا تهدأ، حتى ترضخ إدارة واشنطن – تل أبيب على إطلاق جميع المعتقلين الوطنيين في سجون العدوّ الإسرائيلي وغيرها من السجون السريّة.. إنّه تحرّك مدنيّ حضاريّ في مواجهة سلطة بربرية متوحشة. وإذا لم تنجح هذه الإنتفاضة في تحقيق هدفها، من خلال مسيرتها الكبرى، فكل الخيارات البديلة يجب أن تطرح وتنفذ . إنّ “الولايات المتحدة الصهيونية” لن تكتفي بتدمير وحدتنا الاجتماعية، والتعديّ على شعبنا، بل إنّها سائرة في إطار تنفيذ مشروعها العدائي العنصري المنظّم من أجل إبادة شعبنا، وتدمير حضارتنا، وإلغاء، وجودنا.
ثالثا: مواجهة ثقافة الخوف والاستسلام للمشروع المعادي التفتيتي للمجتمع والإلغائي لوجودنا بثقافة الحياة والقوة والإرادة المصمّمة. إنّ مواجهة ثقافة الخوف والاستسلام لمشروع العدوّ اليهودي، والاعتراف به، والتطبيع والصلح معه، لن يقف في وجهها إلا الثقافة القومية الاجتماعية القائمة على العمل على وحدة المجتمع وقوته وصيانة مصلحته بالقوّة المادية – الروحية معا .. !! فإلى ثقافة المقاومة والممانعة والصبر والانتصار يجب أن نقود أجيالنا كي نحافظ على وحدتنا الاجتماعية، وتطلعاتنا المستقبلية في تحقيق حياتنا في رحاب التقدم والتطوّر والعزّ.
رابعا: التصديّ لروح العداء التي تبث ّ بين الكيانات المفتعلة والغاية منها التنفير من الهوية القومية الواحدة الجامعة، بروحية الوحدة والمحبة، إذ لا معنى لوجود أيّ كيان في حال الانغلاق والعزلة، وخارج إطار الوحدة الاقتصادية – الاجتماعية – السياسية – الحربية في حدود الهلال السوري الخصيب، ومن ضمن جبهة عربية موحدة في هذا العالم العربيّ ولن يكون ذلك إلا بتحرير فلسطين وتوحيد الأمّة السورية وقيام الجبهة العربية القوية.
خامسا: وعلى الصعيد الدولي، المطلوب من الشعوب العربية أن تضغط على حكامها لاتخاذ مواقف مبدئية من “الأمم المتحدة” و “مجلس الأمن”؛ إنّ وجود “الأنظمة العربية” في منظمة الأمم المتحدة المغلوبة على أمرها لم يعد مجديا ولا مفيدا لمصالح الشعوب العربية وحقوقها ومصيرها ومستقبلها، ما دامت ” الولايات المتحدة الصهيونية” تدمن حقّ النقض – الفيتو ضد كلّ قرار لا يؤمن مصلحة “إسرائيل” العدوانية العنصرية الإجرامية. والاتجاه العملي الصحيح هو تعديل نظام “مجلس الأمن”، والمباشرة فورا بإنشاء محكمة دولية لمحاسبة محور واشنطن – تل أبيب، وما المانع من أن تسعى الدول العربية المقاومة من إنشاء منظومة “مجلس الأمن” العربي، لتمارس دورها في صيانة الحقوق القومية للشعوب العربية.
سادسا: ومن أجل صيانة وحدتنا القومية، والمحافظة على حقوقنا الوطنية، يجب أن نمارس كلّ أنواع الضغوط، عبر المؤسسات القضائية في أمتنا والعالم العربي على “المجتمع الدولي” من أجل ملاحقة ومحاكمة مجرمي الحرب الصهاينة اليهود، منذ قيام “الحركة الصهيونية”، وإعلان “وعد بلفور” المشؤوم حتى الآن. إذ أنّ التغاضي عن هذا الأمر هو الذي يشجّع هؤلاء الإرهابيين المجرمين العنصريين على استخدام الأسلحة المحرمة دوليا في إبادة شعبنا المبرمجة ابتداء من فلسطين، مرورا بقبرص ولبنان والعراق، وصولا إلى “سوريا”، وحرب غزة اليوم هي النموذج المصغر لما يعدّه أعداء الأمة في حربهم المبرمجة ضد شعبنا في مختلف كياناته المستضعفة. إنّها الحرب العالمية الثالثة التي تشنّ على أمتنا.
من ينظر إلى أمتنا من فوق، يرَ مقابل هذه الجزر السياسية المتخبطة في الفوضى والضعف والخوف والتفكك والانهزامية، يرَى قمم المقاومة والممانعة والبطولة، ومنارات الهداية والريادة، وقناديل أنوار الفجر، التي ستهزم جحافل الظلام والظلم، وتشقّ طريق الحياة أمام أبناء هذه الأمّة نحو غدّ أفضل، ومجدّ أعظم.