دكتور بشار، قرأت لك عن النزعة السياسية عند تدمر وقدمت الشواهد، هل ان نزعة السيادة كانت سمة عامة في الخط النفسي الفكري التاريخي السوري؟ وما هي الشواهد على النزعة السيادية من التاريخ السوري؟”
جواب
سأكون حذراً في إجابتي ومناقشتي لمفهوم السيادة هنا، فالموضوع ينبغي أن يستند على وثائق ومعطيات وبالتالي استنتاجات موضوعية تخص حركة الاجتماع في المشرق القديم.
إذا كان النظر إلى المشرق منذ تأسيس المدن الأولى من حوالي منتصف إلى نهاية الألف الرابع ق.م، فهنا سنكون أمام معطيات تاريخية رافدية بأكثر من المعطيات الشامية تبعاً للأسبقية الرافدية في نشوء المدن، وهذا يستوجب النظر إلى حالة السيادة وفق منظورٍ مديني وليس بنظرةٍ متكاملة لكامل المشرق.
ويأخذ مفهوم السيادة هنا طابعاً فضفاضاً، فهل مثلاً سيادة مدينةً على أُخرى في المشرق يعتبر فعلاً سيادياً لدى المنتصر وفعلُ انتقاص من سيادة المدينة المستباحة؟
فما بين 3000 ق.م إلى 2500 ق.م تدخل مدن الرافدين ولاسيما في جنوبه في صراعات مدينية أساسها المصلحة المدينية وليس مصلحة قومية أو وطنية عامة، فهنا يضيع مفهوم السيادة بضياع المدن في إحساسها الضيق غير الواعي لوحدة الديمغرافيا ومصالح هذه الديمغرافيا.
فهنا المفهوم ملتبَسٌ حول سيادة من على من وهكذا.
فمثلاً إن سيطرتْ ” عيلام” غير المشرقية على مدينة رافدية قلنا فقدتْ المدينة سيادتها لكن المشرق لم يفقدها، الآن، بسيطرة ” لوجال زاجيزي ” المشرقي على مدن الجنوب الرافدي لأسباب غير قومية بل مصلحية وتحمل طابع الطموح السياسي والقيادي بوجهيه السلبي والإيجابي، السلبي هنا ما قطفه ” شاروكين الأكدي ” واستطاع السيطرة على معظم مدن الجناح الرافدي وبعض المدن في الجناح الشامي ولكن ليس ثمة داعٍ للحديث عن امبراطوريةٍ بقدر ما هي مملكةٌ لم تعمر طويلاً.
إذاً لا يمكن مقاربة مفهوم سيادة واضح في تلك الفترة أكثر من مقاربة واقع مدينيٍ وليس قومياً على أبعد تقدير، فمفهوم السيادة غير محقق لعدم تبلور وجود متكامل متجانس واعٍ لترابطه الروحي.
هنا نستطيع مقاربة وعيٍّ لدى ” شاروكين الأكدي” ملك أكد حين جاء في وثيقة أن “هذه المنطقة جعلها ذات فم واحد”، بمعنى لسان واحد. هذا في حدود 2330 ق.م.
وبنتيجة ضربات المناخ منذ أواخر الألف الثالث ق.م واختلال توازن المدن تعبتْ “أكد” التي كانت قد دمرت إبلا وخرّبتْ ماري نوعاً ما، وهكذا ماتت أهم مملكة حضارية ثقافية تحت ضربات ” الجوتيين” المنساحين من الجبال والجائعين بفعل البيئة والمناخ.
الملاحظ هنا هو أن الواقع المديني المزمن هو المسبب الأول للاستفراد في المدن والممالك المشرقية التي في الحقيقة لم تكن أكثر من مشيخات قبلية وراثية في أغلب الأحيان.
الضربات المناخية والطبيعية من بركان جبل كوكب أفسحتْ المجال لانهيار المدن من “أور” إلى “أكد” ومعظم مواقع الفرات الأوسط والخابور كتل ليلان مثلاً \مدينة “شيخنا”\.
انهيار المراكز المدينية شكّل عاملاً لانسياح الشعوب الجائعة كالأموريين الذين استطاعوا تأسيس ممالك دول \ متشرذمة بالطبع المشرقي \ في كامل المشرق، تناحرت، تحالفت، تحالف قسم منها ضد قسم آخر، حطمتْ بعضها بعضها، استباحت واستبيحت وتركتْ المجال مفتوحاً لاستفراد المحيط الإقليمي بها.
انتهت حقبة الألف الثاني ق.م الأمورية بانتهاء المدن، الحثيون دمروا إبلا، ماري دمرتها بابل، وهذه احتلها الكاشيون، آشور ضمتها بابل وأنهت فاعليتها، يمحاض \ حلب، احتلها الحثيون وهكذا…
مشرق بمدن تشرذمتْ رغم الديمغرافيا الواحدة وبقصور عن أدنى وعي اتحادي أو وحدوي.
ولولا الرافعة الاجتماعية لراح المشرق في خبر كان. سقطت السيادة بغياب هذا الوعي.
أكّدَ هذا الواقع التاريخي الهزيل للمشرق في النصف الثاني من الألف الثاني ق.م، مصر والحثيين والميتانيين والحوريين الخ… وغيرهم، ومدن المشرق لاسيما الجناح الشامي من المشرق تتهاوى تحت أقدام الغزاة وتتوسل وتتآمر على بعضها البعض أمام المحتلين. بالإمكان قراءة وثائق تل العمارنة وقد ذكرتُ في كتابي ” تاريخ المشرق” تلك المراسلات المُخجلة من حكام المدن الشامية إلى ملوك مصر والحثيين.
إذاً ما زرعته المدن الضرائر في المشرق على مدى1500 عاماً من التشرذم قطفتهُ في هذه الفترة بأبس صوره، لهذا لا تنفع الصورة الهوامية الحديثة التي تصف المشرق ككينونة سياسية واحدة عبر التاريخ الجلي، رغم أن الواقع الاقتصادي والاجتماعي والروحي يُقدم مشرقاً حضارياً، ريادياً شكّلتْ الرافعة الاجتماعية معالم نهوضه والحفاظ على مشرقيته.
قيل إن من أسباب التشرذم المزمن هذا هو التضاريس والجغرافيا ولاسيما في بلاد الشام، ذلك على عكس الرافدين الذي تحكمتْ به جغرافيا مائية أساسها نهرا دجلة والفرات ما استوجب تلك المحاولات لإقامة سلطة مركزية حققها نوعاً ما ” لوجال زاجيزي” ثم ” سرجون الأكدي” في الألف الثالث ق.م.
هنا للموضوع بحث آخر.
في الألف الأول ق.م، لم تشذ مدن المشرق الضرائر عن تشرذمها المزمن، فمقابل آشور الرافدية الصاعدة التي تحاول صون قوتها ولاسيما من ناحية الغرب الآرامي والجنوب الغربي العربي بما يقف في وجه الفاعلية الآشورية وتأثيرات مصر عليها، كانت الممالك الآرامية في بلاد الشام في وحدات سياسية لم تتوحد بل تتحالف لمواجهة آشور حتى مع عرب دومة الجندل \ بنو قيدار \ ، لهذا سَهُلَ إنهاء فاعليات الممالك الآرامية، وهنا أيضاَ كانت الرافعة الاجتماعية الحضارية الآرامية الضامن للروحية المشرقية كما كانت الرافعة الاجتماعية الآشورية.
فعل السيادة لم يتعدَ الممالك والمدن، إلا في حالات مواجهة هذه الممالك والمدن لاعتداءات لا تنتمي للمشرق. لم نرى تحالفاً آشورياً آرامياً ضد غزاة لغياب الدولة المركزية المشرقية. لكن سقوط آشور كان بتحالف بابلي – ميدي وراحت نينوى، هنا بابل شذّتْ عن مشرقيتها بخيانة. ثم سقوط بابل حين فتح كهنة الإله مردوخ البابليين أبواب بابل للفرس وغابت فاعلية بابل.
ثم ماذا؟
لا مركز مشرقيًا يُعول عليه، مشرق دفعَ ثمن تشرذمه حتى هبتْ رياح روما على بلاد الشام والفرثيين في الرافدين.
تدمر الوحيدة في بادية الشام، إمكانات تجارية هائلة وحظوة لدى روما من أجل مصالح الإمبراطورية، مدينة أكدت نفسها في القرون الثلاثة الميلادية الأولى رغم الاحتواء الروماني، أمسكت العصا من المنتصف بين فارس و روما، بين مصالحها ومصالح روما.
“أذينة الثاني” ملك تدمر أسس القوة التدمرية والدولة كذلك حتى أعطى لتدمر شخصية مشرقية واضحة \ رغم تشرذم المشرق \، وحين تطاول “شابور” ملك الفرس عليه اجتاح عاصمته في طيسفون وهرب ملك فارس.
” زنوبيا = بت زباي”، أخذت تدمر بعد أذينة إلى المجهول، لم تدرس إمكانات الإمبراطورية التي تواجهها، لم تعي أن حمص ليست معها وأن أنطاكية تطلق على التدمريين تسمية الأجلاف، ولا يمكن الثقة بأعراب البادية.
بوقت وجيز وصل جيشها إلى مصر، وكذلك الأناضول، وسط إمكانات لا يُعول عليها مقارنة مع امبراطورية مترامية الأطراف تعاني من مشاكل سياسية، وكونها مدينة في قلب البادية الشامية.
الدراسة الخاطئة، الانفعال القاتل لدى ملكتها قتلَ تدمر آخر حصن مشرقي.
هكذا كانت سيادة المشرق حسب وثائقه، لا حسب تأملات وعواطف سياسية وأفكار وأيديولوجيات تتيح للصورة الهوامية أن تحضر في الخيال.