هل يمرّ المشروع الجديد لإعادة هيكلة المصارف عبر مصادرة أموال المودعين المحتجزة؟

لاشكّ في أن السجال الدائر حالياً حول مسألة استرداد أموال المودعين تضعنا فعلياً أمام معضلة عقيمة حتى الساعة. إذ أن كل ما يصدر اليوم عن الأطراف المعنية بعملية استرداد الوادائع لجهة رفضها التامّ لأي عملية شطب لودائع الناس هو حتى الساعة كلام شعبوي غير مبنيّ على حقائق ووقائع منطقية، خاصة وأن طريقة التعامل مع الأزمة الراهنة منذ خمس سنوات لا يوحي بأن هذه الأطراف تولي أي اهتمام جدّي لحقوق الناس وأموالهم، لاسيما في ظل الغياب الفاضح لأي حلول أو خطط من شأنها أن تعالج هذه المسألة المقدسة. لا بل على العكس فقد تمّ استنزاف ما تبقّى من أموال للمودعين من خلال المسّ بالاحتياطي الإلزامي لدى مصرف لبنان منذ نهاية العام 2019 لتمويل جيوب المهرّبين والمحتكرين بشكل خاص عن طريق عمليات الدعم المشبوهة. في حين أن الخطط الحكومية المقترحة كانت قد ألمحت في مراحل سابقة إلى موضوع شطب الودائع أو تصنيفها ما دون الـ 100 ألف دولار وما فوقها، أكان في خطة الرئيس حسان دياب أو حتى في خطة الرئيس ميقاتي التي كانت تنوي تحميل معظم الخسائر للقطاع المصرفي، ما يعني المودعين بشكل مباشر، أولاً عبر شطب رأس المال المصارف بالكامل، وثانياً عبر شطب 60 مليار دولار من التزامات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية إزاء المصارف التجارية، وهذه الالتزامات ليست سوى توظيفات القطاع المصرفي لدى مصرف لبنان، أي ودائع اللبنانيين. هكذا خطوة وإن حصلت فهي تشكل ضربة قاضية لما تبقّى من أنقاض القطاع المصرفي وانعدام جدّي للثقة قد يمتدّ لسنوات طويلة. هذا مع العلم بأن ودائع اللبنانيين قد تعرّضت فعلياً لعملية تذويب واقتطاع غير مباشر ومُمنهج منذ نهاية العام 2019، بمجرّد سحب الودائع وفق التعميم 151 على أساس سعر صرف بعيد عن السعر الحقيقي للدولار في السوق الموازية، وهو ما ساهم بتراجع الودائع والالتزامات بالدولار من 121 مليار دولار في نهاية العام 2019 إلى ما دون 90 مليار دولار اليوم.

ولكن لا بدّ من الإشارة إلى أن صدور التعميم 166 قد شكل خرقاً هاماً ومنعطفاً أساسياً على المستوى المالي في لبنان وتحديداً المصرفي، إذ حاول نوعاً ما نسف مصطلحات مبتكرة فرّقت ما بين الدولار المصرفي أو ما يُعرف باللولار، والدولار الجديد ما بعد 17 تشرين الأول 2019 أو ما يُعرف بالفريش. وبالتالي فإن إعطاء المودع مبلغ 150 دولار فريش من حساباته التي حُوّلت من الليرة إلى الدولار بعد 17 تشرين الأول، وإن يعتبر زهيداً جداً ويستثني عدد كبير من المودعين، قد أعاد لودائع الناس أهليّتها وأحقيّتها، بعدما عملت المصارف طوال سنوات الأزمة على شطبها واعتبارها ودائع غير مؤهلة أو غير صالحة عبر إخضاعها لعملة اقتطاع أو هيركات ممنهجة. وبالتالي فإن هذه المبالغ الزهيدة والتي تأتت بعد نقاشات طويلة بالإضافة إلى المماطلة في عملية استردادها توحي على ما يبدو بأن الودائع المصرفية قد تبخرت على الورق والقلم خاصةً وأن تمويل التعاميم 158 و166 جرى ويجري من خلال عمليات شراء دولارات “جديدة” من السوق.

عليه، فإن أي عملية لاستعادة أموال المودعين اليوم لا يمكن أن تمرّ خارج القنوات الثلاث التالية:

  • أولاً، إستعادة الأموال المنهوبة والمحوّلة إلى الخارج، ولكن في ظل غياب عناصر المحاسبة والمساءلة حتى الساعة، فإن هكذا حلّ لا يُبنى عليه في الوقت الراهن.
  • ثانياً، طرح إنشاء صندوق سيادي عبر استثمار أصول الدولة ومؤسساتها ومن ثم إعادة الودائع بشكل تدريجي من خلال إيرادات هذا الصندوق، هو إجراء يُبنى عليه، ولكن مفاعيله طويلة الأمد ويبقى حتى الساعة حبر على ورق، خاصةً وأن أصول الدولة ومؤسساتها في حالة يُرثى لها وغير صالحة للاستثمار في الوقت الحالي، فمعظمها إما في حال إفلاس أم في حالة تحلّل وهريان، كمؤسسة كهرباء لبنان المفلسة، أو قطاع الاتصالات الرازح تحت ضغوط تشغيلية جمّة، أو مطار بيروت المتهالك أو مرفأ بيروت المدمّر.
  • ثالثاً، إعادة هيكلة القطاع المصرفي بأي ثمن والبدء بتطبيق مصطلح المصرف الجيّد والمصرف السيء، عبر إنشاء وحدة خاصة داخل كل مصرف تقوم بتقييم وإدارة الموجودات السامة، وبالتالي يتمّ عزل هذه الموجودات السامة وغير السائلة أو التسليفات المشكوك بتحصيلها عن الموجودات الجيّدة، مع تفرّغ المصرف السيء لتقييم وإدارة هذه الموجودات السامة أو الديون المتعثرة من جهة، وتركيز المصرف الجيّد على أنشطة الأعمال الأساسية كاستقطاب الودائع والتوظيف والتسليف من جهة أخرى. وهي خطوة من شأنها أن تعزّز الشفافية وتسمح للمستثمرين بتقييم السلامة والمكانة المالية للمصرف.

من هنا، لا بدّ من التذكير بأن إصلاح القطاع المصرفي بجهود إعادة الهيكلة لتعزيز وضعيته المالية وحوكمته وقدرته على مواجهة الضغوط، يشكل مطلباً أساسياً، إذ أن فقدان الثقة في القطاع المصرفي اللبناني، الركيزة الأساسية لأي اقتصاد وطني، يعني فقدان الثقة في النظام المالي اللبناني ككلّ، ناهيك عن أن سلامة القطاع المصرفي لها تأثير ملحوظ على المخاطر السيادية وبالتالي على أي تصنيف سيادي محتمل للبنان. غير أنه وبعد مرور 5 سنوات على اندلاع أسوأ أزمة اقتصادية في تاربخ لبنان الحديث، لا يزال التأخير المفتعل في معالجة الخسائر المالية سيد الموقف، نتيجة التجاذبات السياسية الداخلية المستمرة. على سبيل المثال، فإن المماطلة في إقرار مشروع قانون الكابيتال كونترول أفقدته اليوم فعلياً الدور الأساسي الذي كان يجب أن يلعبه مباشرةً بعد نهاية العام 2019، ألا وهو ضبط حركة الأموال من لبنان إلى الخارج للحفاظ على حقوق المودعين، بحيث كان يجب أن يقرّ المشروع إجراءات وتدابير استثنائية ومرحلية مباشرةً بعد 17 تشرين 2019، تهدف إلى وضع ضوابط مؤقّتة تشكّل في الوقت نفسه حمايةً لحقوق المودعين وتعزيزاً لقدرات المصارف على القيام بواجباتها، مع حرية التصرف بالتحويلات الجديدة الواردة من الخارج من دون أية قيود، ما يعيد الثقة تدريجياً في القطاع المالي اللبناني.

ولكن ما نخشاه اليوم هو أن تقوم السلطات المعنية باللجوء إلى الحلول السريعة وبأقلّ التكاليف الممكنة، والتي قد تتمثّل بحسب النسخة الجديدة من خطة إعادة هيكلة القطاع المصرفي ،بشطب جزء من الودائع ما فوق سقف محدّد يكون رهن ما تبقّى من عملات صعبة داخل النظام المالي اللبناني، خاصةً تلك التي تفوق 500 ألف دولار من الودائع والتي يجري العمل على ابتلاعها من خلال مزيج من الإجراءات المعقدة والبائسة، كتحويل جزء من الودائع إلى سندات أو اللجوء إلى استبدال الودائع بأسهم في مصارف مفلسة وذلك بذريعة ما توفّر من حلول مع ضرورة تقبّل الأمر الواقع، أو اللجوء إلى ليلرة الودائع بالدولار عبر تحويلها إلى الليرة اللبنانية وفق سعر صرف يتحدّد وفق الظروف الاقتصادية في حينه، وذلك بمعزل عن التداعيات الخطيرة لهكذا إجراء على الواقع الاقتصادي والمالي والنقدي، وتحديداً على صعيد الكتلة النقدية بالليرة وعلى سعر الصرف بشكل خاص. في حين تضع الخطة جدولاً زمنياً لتقسيط الودائع ما دون الـ 100 ألف دولار على مدى 11 سنة، يبدأ بسداد 400 دولار شهرياً في السنة الأولى، ثمّ يرتفع تدريجياً حتى يصل إلى 800 دولار في السنة الأخيرة.

باختصار، كل هذه الخطط تبقى معالجات موضعية وترقيعية لتمرير الوقت وذلك لحين الشروع في الإصلاحات الهيكلية المطلوبة وفق خطة إنقاذ اقتصادية لمعالجة الاختلالات الماكرو اقتصادية البنيوية، وإلا فإن أي معالجات موضعية كالتي تعوّدنا عليها خلال السنوات الأخيرة من شأنها أن تلجم الأزمة تفادياً للارتطام الكبير، خاصةً إذا ما بقيت أركان الدولة ومؤسساتها في شللها وانحلالها دون أي حسّ بالمسؤولية أو إدراك لمدى فداحة الأزمة الاقتصادية التي يمرّ بها لبنان منذ نهاية العام 2019.