أرض الميعاد والأديان الإبراهيمية

     الحلقة الثالثة

المسيحية والاسلام والوعد التوراتي

في القرن الأول للمسيحية ظهر تيار بين اليهود الذين اعتنقوا المسيحية يعتقد ان “المسيح سيعود الى هذا العالم محاطاً بالقديسين ليملك في الأرض ألف سنة ولذلك سُموا بالألفية (Millenarianism)” (9). ربما بقي البعض على هذه المعتقد

لكن موقف المسيحيين الأوائل العام لم يتأثر به وحددوا موقفهم من اليهود اجمالا بما نظّر به أسقف مدينة هيبو (مدينة عنابة في الجزائر) في 396، القديس أوغسطين(10) ويمكن تلخيصه بثلاث نقاط حسب الدكتور محمد السمّاك(11):

  1. الامة اليهودية انتهت بمجيء المسيح.
  2. الله طرد اليهود من فلسطين عقابا لهم على صلب المسيح.
  3. النبوءات التي تتحدث عن عودة اليهود قد تحققت بعودتهم من بابل على يد الامبراطور الفارسي قورش.

المسيحية البروتستانتية:

ظلت المعتقدات المسيحية كذلك الى أكثر من 11 قرنا الى ان بدأت تتغير ببروز نجم القس وعالم اللاهوت الألماني مارتن لوثر (1483- 1546)، الذي يتهم انه من المسيحيين الألفيين، في بداية القرن السادس عشر. لوثر قاد ثورة إصلاحية على الكنيسة الكاثوليكية فبالإضافة الى المطالبة بإلغاء النظام البابوي والمساواة بين رجال الدين وبين المسيحيين العاديين، طالب بالعودة إلى كتاب التوراة العبراني وإعادة قراءته بطريقة جديدة. الكنيسة الكاثوليكية ردت على هذه المطالب بطرد لوثر من الكنيسة واعتباره مهرطقا فلجأ الى العمل السري واستغل ازدراء الكنيسة الكاثوليكية لليهود وحاول استمالتهم لمذهبه الجديد واعادة الاعتبار لهم فأصدر كتابه “عيسى ولد يهوديا” في 1523 الذي قال فيه “إن الروح القدس شاءت ان تُنزل كل أسفار الكتاب المقدس عن طريق اليهود، وحدهم. إن اليهود هم أبناء الرب ونحن (المسيحيين) الضيوف الغرباء وعلينا أن نرضى بأن نكون كالكلاب، التي تأكل ما يسقط من فتات مائدة أسيادها”.

بعد ذلك حاول وفشل مارتن لوثر في استقطاب اليهود لحركته الإصلاحية، فغير موقفه منهم وكتب في آخر أيامه في 1544 كتاب “اليهود واكاذيبهم”، وصفهم فيه بأنهم خبثاء ولصوص وديدان مقززة ‘وأعلن بان اعتناق اليهود للمسيحة لن يتم إلا عبر عودتهم لأرض فلسطين وعودة المسيح، و”إننا سنزوِّدهم بكل ما يحتاجون لرحلتهم لا لشيء إلا للتخلص منهم. إنهم عبء ثقيل علينا، وهم بلاء وجودنا”(12).

رغم تحول موقف مارتن لوثر من اليهود، فمذهبه البروتستانتي كان نقطة تحول كبيرة في نظرة المسيحية اجمالا الى اليهودية وأصبح التوراة يأخذ أهمية كبيرة في ايمانهم. بعكس فرنسا التي بقيت على كاثوليكيتها، ألمانيا وانجلترا وهولندا الأنجلو-سكسونية مالت الى البروتستانتية، وفي 1539 ترجم ملك إنجلترا هنري الثامن التوراة الى اللغة الإنكليزية ووضع نسخة منه في كل كنيسة، وبذلك أصبح ‘الكتاب المقدس ‘بعهديه القديم (التوراة) والجديد (الإنجيل) أعلى مرجع للكنيسة الانجليزية وجزءاً من الثقافة الإنكليزية. حسب الباحث الفلسطيني أحمد الدبش “أصبحت اليهودية، على مدى ثلاثة قرون، العامل القوي الوحيد المؤثِّر في الثقافة الإنجليزية … وحل ’ الكتاب المقدَّس ‘محل البابا كسلطة روحية عليا. يستشهد الدبش بعد ذلك بما قاله أش دبليو هور (H. W. Hoare) في كتابه “تطور الكتاب المقدس الانكليزي” بانه “لم يتغلغل كتاب آخر في دماء وعروق الإنكليز، كما فعل هذه الكتاب”. وهكذا، رسَخت في أذهان البروتستانت فكرة الرابطة الأبدية بين اليهود وفلسطين، باعتبارها وطنهم القومي الذي يجب أن يعودوا إليه (13).

بناء على هذه التوجه اتبعت معظم الطوائف الانجيلية في إنكلترا وأميركا ما سُمي ب المنهج “التدبيري” (القدري، dispensationalism) (5) الذي رسخ الايمان بان الكنيسة المسيحية هي مملكة الله في السماء وان إسرائيل هي مملكة الله على الأرض، وأننا بانتظار الدور السابع والأخير للبشرية على الأرض الذي سيرجع فيه المسيح لتأسيس حكمه الألفي على مملكة الله على أرض إسرائيل. اهم الاشارات او الشروط المسبقة لهذه العودة هي ‘عودة ‘كل الأرض المقدسة الى ’ شعب الله ‘اليهودي وضم القدس وبناء هيكل سليمان (بعد تدمير المسجد الأقصى).

المسيحية الكاثوليكية والأرثوذكسية:

الكنيسة الكاثوليكية من ناحيتها اعتمدت على العهد الجديد في تفسير العهد القديم واسفاره فأرض الميعاد لم تعد تعني ارض جغرافية مادية، بل حقيقة روحية هي مملكة الله. هذا التفسير اعتمد على رسالة القديس بطرس للعبرانيين (11: 9-10) حيث قال “بالإيمان تغرب إبراهيم في ارض الموعد كأنها غريبة ساكنا في خيام مع اسحق ويعقوب الوارثين معه لهذا الموعد عينه لأنه كان ينتظر المدينة التي بها الاساسات التي صابغها وباركها الله”(14). في موقف شبيه، تعتبر الكنيسة الأرثوذكسية ان المسيح “حررنا من الأرض والتراب وكلما يتعلق بالملك فكان هو المليك والمملكة ومطرح المواعيد وغاية المواعيد”(15). الجدير بالذكر ان الكنيسة الكاثوليكية حافظت على موقفها الى قبل نهاية الحرب العالمية الثانية، ففي رسالة “الالهام الإلهي للروح” (Divine Afflante Spirita) للبابا بيوس الثاني عشر في أيلول 1943 دعي الى ترجمة التوراة الى اللغات العامية (vernacular languages)(16) وحرض الأساقفة على “تـحبيذ ومساعدة تلك الـجمعيات التقِية التي ترغب في نشر طبعات التوراة بين الـمؤمنين، وخصوصاً نشر الأناجيل، وأن يسعوا بكل اجتهاد أن تُقرأ في العائلات الـمسيحية باستقامة وتقديس”. هذه الرسالة اعتبرها أنطون سعادة أخطر تعديل في الموقف البابوي لأنه “يُوجد تأييداً له (الشعب المختار) في محاولته الجديدة للاستيلاء على بلاد السوريين التي «وعده يهوه» أن يعطيه إياها ملكاً خاصاً به”(17). الموقف البابوي لم يقتصر على تقديس التوراة، بل برّأ اليهود من دم المسيح في 1965 ومن ثم اعترف بإسرائيل في 1994. رغم ذلك، يؤكد الفاتيكان ان الاعتراف بدولة إسرائيل يتم لاعتبارات عملية لا علاقة له بالعقائد المسيحية.

المصادر:

الحلقة الثالثة

(9)      ارض الميعاد والصهيونية الحديثة – ارثوذكس      

(10)     القديس أوغسطين: بين الرواية المانوية واللاهوت المسيحي – دكتور محمد فرحان

(11)    بلا حدود| محمد السماك مع أحمد منصور: المسيحية الصهيونية وتفاصيل الاختراق الصهيوني للمسيحية

(12)       الكنيسة البروتستانتية وعلاقتها بالمسيحية الصهيونية – فدوى بنيعيش؛ الجزيرة نت

(13)    الصهيونية المسيحية “البروتستانتية”، أحمد الدبش؛ الجزيرة نت

(14)     النبوءة والسياسة (الترجمة العربية) – غريس هالسل، مقدمة الناشر، ص6

(15)    المطران جورج خضر، مؤسس اللاهوت العربي حول فلسطين – خريستو المر

(16)         Divino afflante Spiritu – Pope Pius XII

(17(    رسالـة البابـا الأخيـرة «نفـوذ اليهـود في الفاتيكـان» «إستفحـال أمـر الصهيونيـة» –  أنطون سعاده