تحولت غزة إلى مسرح حملة همجية متوحشة، هدفها تدمير القطاع كليًّا وتهجير سكانه. أطفال غزة ونساؤها يقتلون صباح مساء. الأشلاء تتناثر في كل مكان. الجثث ملقاة في الشوارع. الدماء تسيل في الطرقات. روائح الموت تفوح من كل ناحية. مناظر جثث الأطفال والنساء والعُزَّل الأبرياء تتفطر لها القلوب، وتقشعر منها الأبدان. التوحش البربري يطال كل شيء، البشر والشجر والحجر. المنازل تُهدم على رؤوس ساكنيها. وقد شمل القصف بطائرات أميركا 70% منها على الأقل، حتى كتابة هذه السطور. لم يراعِ المجرمون الأوغاد حرمات دور العبادة والمستشفيات ومراكز الإيواء، بما فيها التابعة للمنظمات الدولية. فظائع تُرتكب في القرن الحادي والعشرين، وتتوسع لتشمل منع دخول المعونات والمساعدات ومقومات الحياة. المياه قطعها نازيو العصر. الوقود والإمدادات الغذائية تدخل بالقطَّارة. إنها حرب إبادة كاملة الأوصاف، ومكتملة الأساليب، والممارسات، وأدوات القتل، والتدمير.
كل قنبلة تُلقى، أو صاروخ ينفجر في غزة، إنما يضيئان على وجه أميركا القبيح. فقد تأكد، يوم طوفان الأقصى وبعده، وهن الكيان الشاذ اللقيط وهشاشته. لكنه يستمد قوته وأسباب عدوانه واحتلاله للأراضي العربية، من أميركا داعمة الرئيس والضامن لعدم محاسبته ووضعه فوق القانون الدولي.
لكن غزة لم تستسلم، ولم يعرف اليأس إلى وجدانها طريقًا. مقاومتها صامدة، تسطر مآثر بطولية في مقاومة العدو الهمجي الأرعن كل يوم. رسالتها ساطعة المعنى، فاقعة الدلالة: لن نهجر أرض آبائنا وأجدادنا مهما غالى العدو الغاصب في توحشه واشتط في نزوات غروره.
غزة تقدم مادة مضيئة للتاريخ سيفرد لها مكانة تليق بها، في أنصع صفحات أسفاره.
سيكتب التاريخ، أن غزة كشفت عنصرية أميركا وغربها الأطلسي. وبالقدر ذاته، عَرَّت القيم الزائفة لرُعاة الكيان وداعميه هؤلاء، عن حقوق الإنسان. قيم لا يخجلون من التبجح بها، وهم يرون جرائم الكيان الشاذ اللقيط يقترفها بأسلحتهم.
لا يكتفون بذلك، بل يشرعنون جرائم العدو ويوفرون له الغطاء أيًّا كان مستوى توحشه وحجم جرائمه.
وعن عرب الحاضر، سوف تقرأ الأجيال في أسفار التاريخ ما يدعو إلى الخجل. سيتساءلون حينها: هل يُعقل أن هذه الفظاعات ضد شعب شقيق لم تُحرك المشاعر، ولم تُثِر الحمية، أقله من باب احترام الذات وكسب احترام الأمم؟!
لن تطول حيرة الأجيال، ولن يُعسرها الجواب. مكمن الخلل، أنظمة مهجوسة بحسابات الحفاظ على كراسي الحكم. من هذه الزاوية تزن الأمور، وأولى أولوياتها كسب رضا أميركا وتحاشي غضبها. بالمناسبة، أميركا أهينت وهُزمت في أكثر من مكان في العالم، والشواهد معلومة. إلا عند العرب، حيث إيماءات العم سام أوامر ونظراته زواجر.
أما الشعوب، فمغلوبة على أمرها بلا حول ولا قوة. تائهة مترددة، بين مرجعيات قر وسطية وشروط التقدم وامتلاك عناصر القوة بمعايير عصرها. والنتيجة، أمة ضعيفة ليس بمستطاعها فعل شيء سوى الشجب، وهو دليل ضعفٍ، ومثله الاستنكار. يستجدي حكامها أميركا، كي “تضغط” على اسرائيل، وهذا دليل هوان وانبطاح ربما غير مسبوقين في التاريخ العربي. الأنكى والأمَر، أن بعضًا من أنظمة العرب يحمل لواء التطبيع العلني مع العدو. وبعض آخر يتباهى اعلامه بتسجيل مواقف كاذبة وادعاءات زائفة ببذل الجهود لوقف العدوان!
ولم تفرز محاولات إبراء الذمة على هذا النحو، إلا إخفاقات مخزية ومكشوفة. ومن تجليات التخاذل المعيبة، حصر التعامل مع العدوان الهمجي في جانب المساعدات الإنسانية. هنا، يتبدى لربما عن خبث حرف البوصلة من حرب إبادة إلى قضية طعام وشراب.
سوف يتملك الذهول أحفادنا ويستبد ببعضهم الغضب، عندما يخبرهم التاريخ بأن دولًا في افريقيا وأميركا اللاتينية قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع الكيان تضامنًا مع غزة. وفي المقابل، لم تجرؤ أنظمة التطبيع العربية على التلويح، مجرد التلويح، بسحب سفرائها من تل الربيع المحتلة، المسماة زورًا وبهتانًا “تل أبيب”.
في المحصلة، سوف يتساءل أحفادنا: لماذا وكيف تغاضى أجدادنا عن حقيقة أن العالم لا يحترم الضعفاء، ولا يقيم لهم وزنًا؟!
العالم يحترم الأقوياء، ليس لكونهم أقوياء فحسب، بل لأنهم لم يدَّخروا جهدًا في السعي لامتلاك عناصر القوة.