أمّا وقد أصبح في حكم المؤكّد أنّ إيران والمقاومة اليمنيّة والمقاومة اللبنانيّة سيسدّدون حسابهم مع تل أبيب وإن تأجل تنفيذ هذا التهديد والذي مثّل جزءًا من العقاب بهدف استنزاف أعصاب الإسرائيليين دولةً وجيشًا ومجتمعًا، وأنّ كلّ الجهود والإغراءات والتهديدات التي بذلت لإقناع الأطراف الثلاثة بعدم الردّ أو الاكتفاء بردّ مظهري محدود ومتّفق عليه قد فشلت، فلم يكن أمام الوسطاء إلّا إخراج البضاعة التالفة من صندوق النفايات وإعادة تدويرها من خلال البيان الثلاثي الأميركيّ- القطريّ- المصريّ الذي يذهب باتجاه العودة للتفاوض. وترافق ذلك مع إشاعة أجواء من التفاؤل الكاذب والقول بأنّه لم يتبقَّ إلّا بعض التفاصيل لإنجاز الاتفاق والوصول إلى وقف لإطلاق النار.
لا يرى هؤلاء في محاولة اغتيال الشيخ اسماعيل هنية في طهران نهاية مرحلة، أعقب نهايتها وأكّد عليها إجماع المجالس القياديّة في حركة حماس على انتخاب من خطّط وأعدّ ونفّذ ما جرى في السابع من تشرين الأوّل الماضي وقاد الحرب ولا يزال، الأمر الذي يُقرأ في السياسة على أنّه إجماع على خيار المقاومة وعلى الاستمرار في الحرب، وهو ما سيتوافق مع الردّ الأكيد والقريب لإيران وحزب الله وأنصار الله، وما يتوقّعه الجميع من أنّه سيكون ردًّا مؤلمًا وغير مسبوق، ويحمل في طيّاته احتمال انتقال القوى الثلاث، أو بعضها، من مرحلة المساندة والمشاغلة إلى مرحلة الانخراط التامّ في الحرب، خاصّة وقد فشلت الجهود التي بذلها العمانيّون مع صنعاء وطهران لاحتواء الأزمة وترتيب الرد المظهري المتّفق عليه، كما فشلت الجهود الفرنسية وتلك التي قام بها المرسال الإسرائيلي-الأمريكيّ هوكشتاين، وما يقدّم من إغراءات أو تهديدات للمقاومة اللبنانيّة التي لم يسِل لعابها للإغراءات، ولم ترتعش خوفًا من التهديدات، هذا ما جعل من دولة الاحتلال الخائف الوحيد.
الدافع الأساس وراء إخراج هذه البضاعة الفاسدة (الاتفاق الثلاثي) هو أوّلًا محاولة مماطلة صنعاء وطهران والضاحية الجنوبيّة في تنفيذ ما أعلنوه من ضربات، ومن أجل التوصّل إلى تسوية معهم، وثانيًا محاولة التوصّل إلى تسوية مع غزّة بحيث يفقد محور المقاومة المشروعيّة الأساسيّة للاشتباك مع إسرائيل والتي هي إنقاذ غزّة والدفاع عن الشعب الفلسطيني.
يرى الصحافي في جريدة هآرتس العبريّة ناحوم برنيع أنّ الرأي لدى جماعة الأمن في كيان الاحتلال يذهب إلى أنّ الأمور وصلت إلى نهاية الطريق على شكل حرف T، فإمّا الذهاب باتجاه تسوية في غزّة تشمل صفقة تبادل وترتيب أوضاع اليوم الثاني لما بعد الحرب وبهذا يصبح بإمكان “إسرائيل” توجيه الطاقات نحو إيران ولبنان، وإمّا الطريق الثاني وهو الذهاب إلى حرب إقليميّة يسعى إليها المستوى السياسي في “إسرائيل”. ولكن الصحافي المخضرم يضع احتمالًا ثالثًا من عنده، وهو، كما يظنّه، خيار نتنياهو الذي يفضّل المرابطة على المفترق والتمركز هناك بانتظار حصول معجزه مستحيلة من الغيب أو ممكنة على الأرض كانتخاب ترامب في السباق نحو البيت الأبيض.
جاء الردّ الإسرائيليّ الأوّل والسريع على البيان الثلاثي بارتكاب مجزرة مدرسة حي الدرج بثلاث قنابل أمريكيّة الصنع تزن كلّ منها 2000 رطل وتبلغ درجه الحرارة التي يحدثها الانفجار 700 درجة مئوية قادرة على إذابة المعادن لا أجساد البشر فقط.
كان الضحايا يؤدّون صلاة الفجر، وهم من الذين تمّ تهجير أجدادهم وأبائهم من عسقلان وحمامة والمجدل عام 1948، والآن تمّ تهجيرهم من مكان إلى مكان عدّة مرات خلال الأشهر العشرة الماضية، ولم يبقَ لهم بيت أو حتّى خيمه تأويهم. أمّا الردّ غير السريع فهو الإصرار على تهجير سكّان شمال قطاع غزّة وجعله منطقه لا بشر فيها ولا شجر أو حجر، ليتم بعد ذلك ضمّه إلى “إسرائيل” وتشكيل إدارة للشؤون المدنيّة لإدارة وسط وجنوب القطاع، فيما يبقى الأمن بيد الاحتلال، أمّا قادة المقاومة ومن سيبقى منهم على قيد الحياة فلا مكان لهم في غزّة بعد تسليم سلاحهم وعليهم الرحيل.
لا زالت نار الحرب تلتهم، وهي ومرشّحة لالتهام المزيد، من الأرواح والأموال والعسكر. وفي السياسة أيضًا، ستكُشف عورات النظام العربيّ الذي لا يجد ما يقوله إلّا الإدانة الخجولة والبيانات النمطيّة ومطالبة المجتمع الدولي بتحمّل مسؤوليّاته فيما لا يتحمّل هؤلاء لا مسؤوليّاتهم القوميّة الكبيرة ولا حتى القطرية-الكيانية الصغيرة، وكيف يمكن الوثوق بوسيط يقوم بالمشاركة بحصار غزّة ويمنع عنها الطعام والدواء ويحول دون خروج المرضى والمصابين.
صباح أمس صدر الردّ الرسميّ للمقاومة على مشروع البيان الثلاثي رافضًا المشاركة في جولة الخامس عشر من الشهر الحالي ما لم يتمّ تنفيذ ما طلبته مبدئيًا للشروع في التفاوض، مع الإشارة إلى رؤية بايدن وقرار مجلس الأمن اللذين حاولا تدوير الزوايا الحادّة، والمقاومة بذلك تعيد إلقاء الكرة من جديد وبما يزيد من إحراج الوسطاء-الأطراف الثلاثة.
في الجانب الآخر صدر عن الثنائي بن غفير وسموترتش تصريحًا يهدّد بالانسحاب من الحكومة في حال قبلت الأخيرة هذا الحل، وهو تهديد يسعد رئيس الحكومة ولا يزعجه.
الفشل هو النتيجة لمشروع التفاوض الأخير، فلا أحد يشتري بضاعة فاسدة، وطريق الحرب لا زال طويلًا.
سعادة ارشيد
جنين- فلسطين المحتلة