نحن نعيش عصر السرعة، لم نقل جديدًا فالكل يعرف ذلك.
نحن نعيش عصر التحولات الكبرى، لم نأت بجديد فالكل يعرف ذلك.
نعم، فالسرعة وعصر السرعة من البديهي ان ينتج التحولات، فارتفاع سرعة القطار وتحوله من الفحم الى الطاقة الكهربائية والنووية مثلا” كفيل بخلق تحولات لا تعد ولا تحصى ولا تحصر بأكثر من جانب من جوانب الحياة. ويمكن ملاحظة الفوارق بين بلدان اعتمدت القطار منذ زمن وواكبت تطوره وبين بلدان ما زال قطارها تقليدي واخرى، لم تنعم بهذه النعمة فتظهر الفوارق.
بتنا في زمن تقاس فيه السرعة بالسنة الضوئية ويسير العالم الباحث مركبات ومسابير فضائية تسير بسرعات هائلة ومسافات لا متناهية للوصول إلى نتائج تقلب معارفنا وموروثنا عن الكون وحركته ونشأته … وهذا بالطبع سيغير من مداركنا وبالطبع سيغير نمط حياتنا.
ما تقدم يقودنا الى استنتاج ان التحولات في حياة الامم تتبع من التغير في معارفها ومداركها، كما من تغير سرعة دورة حياتها والعكس صحيح بقدر ما يحكم الجمود احوال اي مجتمع بقدر ما ينعم( ان كان في ذلك نعمة فالجمود موت بطيء) هذا المجتمع بالاستقرار والثبات ودوام الحال( نسبيا فدوام الحال من المحال).ومن هذه القاعدة او الاستنتاج نستطيع القول ان المجتمعات المحافظة وخاصة الدينية هي المجتمعات الاكثر ثباتا او الاقل تحولاً وبالتالي تقدماً واذا كانت لدينا شواهد معاكسة او مناقضة لهذه المقولة كإيران وحديثاً جداً اليمن التي خرجت للتصنيع العسكري الفرط صوتي متجاوزة ايران والكيان العبري وأصبحت الدولة الخامسة في الترتيب العالمي، ويبقى النصر بالنسبة لها من عند الله …يعون الله.. وتسمى الاسلحة بأسماء الائمة ومآثرهم….
ومن هذا نستنتج ايضاً ان التحول نسبي بين مجتمعات الزمن الواحد، الخاضعة لما سبق ولاستعداد الشعوب لتقبل كل جديد ومنعتها في اختيار ما يلزم ورذل ما لا يلزم. وكون الغرب الاستعماري كان السباق في القرون التي تلت الثورة اللوثرية_ الكالفينية البروتستانتية (اتخذناها كمرجع وليس الاكتشافات الجغرافية) التي ازاحت طاغوت الكنيسة المتحجر عن كاهل المجتمع الغربي. الا انها وبمعونة الرأسمالية الناشئة والمتوحشة والخالية من اية قيم ( وإن اعتمدت القيمة المادية) اجتماعية اخلاقية وامنت لها موارد الانطلاق المفتاح لأبداع الافراد وانفلات شهواتهم التي أخطرها شهوة الفرد الاساسية للسلطة والمال، ولشعار “دعه يعمل دعه يمر ” المهم ان يحقق غاياته تلك وما يستتبعها من شهوات جيدة وجنسية اتاحت للغرب الصعود السريع في ظل غفوة الامم الأخرى الغافلة على امجاد عبرت ،مشرعة ابوابها لأصحاب الشهوات الجامعة يعوثون بمجتمعاتهم قبل تلك المتهالكة نتيجة ما سبق ونتيجة الاكتشافات والابادات بحق الشعوب الاصلية لتلك البلدان ونهب مواردها وخيراتها.
هذا الانفلات الرهيب للعقل من عقاله والغرائز من لجامها جعل التحولات تومي الى عدة أنواع من المجتمعات نختصرها في ثلاث:
1_ المجتمعات المتطورة افلتت العقل والاخلاق وتتمثل في الدول الغربية الرأسمالية الكبرى والاستعمارية
2_ المجتمعات التي افلتت العقل من عقاله محافظة على تقاليدها كاليابان والصين والهند
3_ المجتمعات التي ما زالت تعيش امجادها الغابرة وترزح تحت حكم طاغوت الاستعمار والنهب كالشرق الاوسط وافريقيا. وبعض اميركا اللاتينية….
وإن لم نصب في تحديد البعض فهذا ناتج عن الاختصار وعن غاية هذا التقسيم نفسه لنقول ان التحول المتفلت سيترك ندوباً واثاراً عظيمة لا يمكن تدارك عواقبها طويلاً وسيكون سقوطها مدوياً بنفس سرعة تحولها التصاعدي السابق الذكر، وهذا ما يصيب الحالة الاولى الدول الصناعية بشكل اساس.
في نظرة سريعة نرى هذه المجتمعات وقد اتخذت مسارات الانهيار العنيف في اغلبها وربما كان اقواها واكثرها وضوحاً انهيار الاتحاد السوفياتي( رغم عدم ذكره في التصنيف وانهيار مكانة بريطانيا وفرنسا رائدات هذا التطور والثورة الصناعية وعصر الانوار) ناهيك عن ما يجمعها مع لؤلؤة هذا التصنيف اميركا التي نخرت الفردانية بمظاهرها السابقة الذكر اركان المجتمع الاميركي ،الذي انهارت فيه منظومة القيم بدون ضوابط بل وبدعم الحكومتين العلنية الحاكمة شكلاً والمتسترة المتحكمة فعلاً باي معيار اخلاقي وشعارها الربح والسيطرة ونشر الرذيلة فبات نشر المثلية وتغيير الجنس … الشعار الاميركي وحلفائه البديل عن شعار نشر الديمقراطية فبات دور الرئيس ماكرون مثلاً زيارة مدرسة في ضواحي باريس ليسوق لطفلة العشر سنوات: “إمكانك ان تدخلي حمام الصبيان” يقابله الرئيس بايدن باعتراف علني:” أنا مثلي” وكأن هذا ما يحتاجه العالم لحل ازماته المالية المستعصية. وهذا الشعار أي الديمقراطية سقط في اميركا قبل ان تكمل نشره فكان هذا التحول الاخطر والاسرع انتشاراً في تلك المجتمعات وتسرب بنسب متفاوتة ومكبوحة الى الفئتين الاخرين. يترافق ذلك مع تحول اقتصادي خطير لهذه المنظمة باستثناء النموذج الشاذ نسبياً اي الروسية البديل السوفياتي الذي قاد ثورة مضادة لهذه القيم مترافقة مع ثورة تكنولوجيا مسلحة تقود تحولاً سيطيح اتباع اميركا ومشروعها. هذا التحدي الروسي وجنبه الصيني معطوفاً على تمزق اخلاقي وانهيار اقتصادي وشيك، ولكنه بالأرقام حاصل فعلاً وتهديدات البنك الدولي والعارفين بحجم المديونية الامريكية وهولها وعدم امكانية تداركها في ظل غياب اي حل في الافق، وبعد لم يفقد الدولار اسباب قوته (البترو دولار) او لم ترفع العربية السعودية يد حمايتها النفطية السوداء له. واذا ما حصل ستكون كلمة العاهل السعودية الملك سلمان بن عبد العزيز مؤشر اسرع واخطر واضخم التحولات في التاريخ وستسبق كل الدلائل الأخرى وحتى تلك التي اعطتها الانتخابات الرئاسية الامريكية منذ انتخاب كومبارس الافلام السينمائية او ممثل الدرجة الرابعة رونالد ريغان مطلع الثمانينيات الى الجولتين الآخرتين ومن تلاه وصولاً الى بطل مراهنات المصارعة الحرة وخلفه العجوز الخرف وصولاً الى احداث الكابيتول ثم أخيراً وربما اخراً إذا صدقت التنبؤات او القراءات السياسية التي رأت بوضوح هذا التدحرج الاميركي نحو الهاوية التي لن يكون بعد هذين الاخيرين لأميركا رئيس جديد كما اشار الكثير من الخبراء والمحللين السياسيين والعسكريين والاقتصاديين، دمغته المقابلة المهزلة كما وصفها الإعلام الاميركي بتأكيد بالأحمر “الزائف” الذي سال على مسرح الكوميديا الرئاسية من اذن ترامب القوي نتيجة الرصاصة الذي زاده صلابة للاستمرار بالصلابة التي اكتسبها خصمه من دعوات مموليه ورفاقه في الحزب الذين يطالبونه بالاستقالة!!!
وإذا نام المتموقعين في الحالة الثالثة نومة اهل الكهف في اطمئنانهم ان حالهم أفضل من حال الأقوياء فإن في نومهم موت أصعب من التحول والسقوط ، فالميت لا يتعب ولا يسقط، ولكنه ايضاً لا يقف منتصباً ولا ينال بركة الحركة بالحياة.
يبقى المستقبل للموجودين في الحالة الثانية المتوثبين بثبات لارتياد الخزانة الاولى مع تعديلات جذرية مختلفة لما هو سائد فيها وإن واكبوا التطور اليقظ المنفتح برؤية المنافس تكنولوجيا” وصناعيا” وتخطيطا” نحو الاسبقية في الافضلية.