“الافخارستيا “النيوليبرالية

لم يكن إجراء العرض الافتتاحي لأولمبياد باريس 2024، خارج الملعب كما هو معتاد، ليخدم فقط، وظيفة جماليّة إبداعيّة يمكن الشعور بها في العديد من محطات برنامج العرض، بل وأيضاً وبالدرجة الأولى للتأكيد أنَّ العالم القديم الذي يمثّله (الملعب – الستاد) بشكله الدائري – البيضوي ومدرجاته المتسقة المنظمة وفق قواعد هندسيّة دقيقة وأسواره المحكمة وبواباته العملاقة وقوانينه الرياضية وقيمه الأخلاقيّة… للتأكيد أنَّ هذا العالم انتهى رمزيّاً وواقعاً، وأنَّ عالماً آخر حلَّ مكانه وها هو يبسط سلطته الرمزيّة والواقعيّة، في أحياء المدينة وشوارعها وعماراتها وقلاعها وقصورها ومسارحها … عالم جديد يعيد إنتاج المدينة كما يراها هو فيتحرّش بتاريخها ويصل إلى علاماتها المميزة ليغيرها إلى الأبد.

الأشخاص الغامضون، الأشخاص المتحولون جنسيّاً، المثليّون، ماري أنطوانيت المقطوعة الرأس حضرت في (مقطع الحريّة)، الحريّة القادمة التي ستحيل الإنسان إلى (فرد معزول) دون أفق اجتماعي يراه أو يحسّ به، الأفق الذي أعطاه معناه منذ أن وجد وإلى الآن، (الإنسان – الفرد المعزول) سيتغيّر جنسيّاً وثقافيّاً مع إسقاط اجتماعيته ليرتبط بمركز افتراضي يتحكم بوجوده من ضمن مقتضيات برنامج محدد مسبقاً.

 حضر رأس ماري أنطوانيت مهدداً الخيال الجمالي ومرهباً أية رؤية مخالفة وقامعاً أية رغبة بالتوقف لتفحّص هذا الانخطاف الغادر للإنسانيّة. حضرت ماري أنطوانيت فاستغنت فرنسا عن أيقونتها (جان دارك) … وتعمّدت بدماء ملكة (كذبة البريوش)… وتغيّرت.

الذروة الرمزيّة للعرض النيوليبرالي، تمثّل مرة جديدة بإعادة تجسيد العشاء الأخير ليسوع مع تلاميذه وفق رؤية الفنان الإيطالي ليوناردو دافنشي التي عبّر عنها بلوحة أنجزها في نهاية القرن الخامس عشر، ولكن لتسيطر على (الرؤية المسيحيّة) لذلك العشاء دون أن يتمكن أي عمل فني آخر من منافستها أو التأثير على مكانتها. (سنتناولها في مقال لاحق).

العشاء الأخير، أو العشاء السّرّي، كان الحدث الذي شهد ولادة سرّ القربان المقدّس (الأفخارستيا)، وهو السّر الذي يجعل يسوع حاضراً في الإنسان، بجسده وروحه. دون هذا السّر سيخسر المؤمن علاقته المباشرة مع يسوع ويكتفي بالعلاقة المعنوية – الرمزية المرتكزة إلى النص المرجعي المتمثّل بالإنجيل.

في العشاء الأخير، كرّس يسوع هذه العلاقة باعتباره الخبز يرمز إلى جسده والخمر إلى دمه – روحه، وعندما يتناولها المؤمن يتأكد انتقاله إلى (العهد الجديد).

الأفخارستيا، بهذا المعنى، هي جسر العبور نحو (العهد الجديد). دونها، أي دون سرّ القربان المقدّس، أي دون الخبز والخمر المتحولين في جسد المؤمن إلى يسوع، دون ذلك لا يوجد عهد جديد ويبقى الإنسان محكوماً بعهد ما قبل يسوع.

استولت النيوليبراليّة على هذه (الرمزيّة الكثيفة) الاستثنائية العابرة لأكثر من ألفي عام، والراسخة في الخيال الغربي عموماً بواسطة تحفة دافنشي الفنيّة التي عبرت أكثر من خمسمائة عام من عمرها، وهي تزهو بجمالها وتتمترس خلف (ألغازها)؟

الأفخارستيا الراسخة في الخيال الغربي عموماً المؤمن منه والعلماني وغير المؤمن وذلك الذي يؤمن بديانة أخرى غير المسيحيّة… هذه الأفخارستيا آن أوان تبديلها، حان وقت إزاحة أشخاصها ودعوة أشخاص آخرين…. يؤسسون ويدعون لـ (عهد جديد) يحيل عهد يسوع إلى جثة من العالم القديم، ويحلّ محلّها (المتحوّل وفاقد الهويّة الجنسيّة والمثلي وأيضاً البيدوفيلي….) هؤلاء سيتحلّقون حول طاولة دافنشي الجديدة، هؤلاء أصحاب الأفخارستيا النيوليبراليّة التي تبشر بـ (سرّها المقدس): الانتقال إلى ما بعد الإنسانيّة: جنسيّاً ومعنى وجود.

لا يجب النظر إلى الحدث النيوليبرالي الباريسي، بكونه فاصلاً من السخرية الفنيّة بـ (مُقَدّس ديني)، فلا حضور للمسيحية كمؤسسات وكسلطة وكطقوس تعيق حكام العالم النيوليبرالي عن تنفيذ برامجهم واستراتيجياتهم. مع فصل الدين عن الدولة، لم يعد للدين أثراً في الحياة العامة في العالم الغربي على النحو الذي يحرّض مجدداً للوقوف في وجهه والحد من حضوره. الحدث الباريسي هو اللحظة المناسبة التي اختارتها النيوليبراليّة لإعلان انقلابها التام على العالم الإنساني، وتدشين العالم ما بعد الإنساني الذي تبشّر بثقافته ومعناه بوتيرة متصاعدة على مدار الساعة.

لا تواجه النيوليبراليّة الدين المسيحي المتراجع خلفاً في المجتمعات الغربيّة من زمن بعيد، حيث لم يجرؤ رجل دين مسيحي واحد على إدانة الشذوذ الجنسي ولا التحول ولا… بل يُصار إلى تطبيع المؤسسة الكنسيّة (وأولها دولة الفاتيكان) بموجبات الثقافة النيوليبراليّة ومتطلبات برامجها. بالمقابل تتقدم ثقافة (ووك) بدعم لوجستي تام من المؤسسات الكبرى، وبحماية قوانين يتم استصدارها غبّ الطلب. في العالم الغربي اليوم، ليس رجال الدين المسيحي ولا المؤمن بالمسيح هم من يشهرون سلاح التكفير، بل جماعات (ووك) هي من تتسلح بالتكفير لترهب من يفكر بالوقوف في وجهها.

من السذاجة تناول التجسيد النيوليبرالي الجديد للعشاء الأخير، بكونه فاصلاً كاريكاتورياً ساخراً، ناتجاً عن عقل نقدي يصل إلى فولتير… ما حصل هو احتلال تام لمائدة دافنشي بأشخاصها ومكوناتها. فلسفيّاً هو انقلاب على عصر الأنوار.

تغيّرت مائدة دافنشي، انتهت ألغازها، الخلاصات الانسانيّة بين حدي الايمان والشك، المحبة والحقد، الإخلاص والخيانة… تغيب عنها…ليغيب سرّ القربان المقدس… لتحضر عوالم فوضى قيمية وجمالية يبرق فيها النور للحظة خاطفة ليعمي البصر والبصيرة وليسود الظلام سيداً ومناخاً للانقلاب على الإنسانيّة التي تواجه اليوم قدرها على نحوٍ غير مسبوق.

آلهة النيوليبراليّة وضعوا رُسُلهم حول المائدة… ودشنوا أفخارستيا (العهد الجديد).

تنشر بالتوازي مع منصة” سيرجيل “