غالبا ما تعلو النبرة حين يصل النقاش إلى موضوع المقاومة لدى العلمانيين في البلد، وتتوزع الآراء بين من يختار الوقوف إلى جانب المقاومين أيا كانت انتماءاتهم ومعتقداتهم، وبين من يعتبر أن المقاومة الإسلامية احتلت المسار الذي كانت أحزاب المقاومة الوطنية قد أطلقته غداة اجتياح الصهاينة لبيروت.
لن أعود إلى مرحلة الاقتتال الذي رافق هذا التحول، رغم قناعتي بضرورة أن نعيد قراءة وتقييم كل مراحل الحرب الأهلية، بسلبياتها وبنقاطها المضيئة التي تمثلت بالتضحيات التي قدمتها مواكب من الشهداء دفاعا عن رؤيتهم للبنان، والتصدي للمشروع الأميركي الصهيوني الذي أطبق على البلد، وصولا إلى الاجتياح وما تبعه من مواجهات بطولية أدت إلى خروجه من العاصمة وتاليا من الجبل.
إن غياب مثل هذا النقد أفسح المجال لمن غادروا مواقعهم من أمثال محسن إبراهيم لأن يكتبوا تاريخ الحرب على مزاجهم، وبعيدا عن أية موضوعية،
وساهم هذا الغياب في خلق أوهام تتناول مرحلة الانتقال إلى المقاومة الإسلامية، وتضخيم أحداث (على أهميتها) لتبرير تخلي أحزاب تلك المرحلة عن دورها الطليعي في مقاومة الاحتلال،
من هنا لا بد من الدعوة إلى إطلاق هذا النقاش والاضاءة على العلاقة الإشكالية التي لطالما ربطت بين حركات التحرر في العالم، كتنظيمات عسكرية مقاتلة، وبين المنطلقات أو المرتكزات الفكرية والعقائدية لهذه الحركات.
غالبا ما تنطلق حركات التحرر كرد فعل طبيعي على ظلم قائم، وقع على فئة من المجتمع إذا كان داخليا، أو على المجتمع كله إذا كان خارجيا، كالاحتلال، أو الاستعمار العسكري، أو الاقتصادي، أو الثقافي والمعرفي، وهذا الأخير هو الشكل الأحدث للاستعمار.
يحتاج النضال التحرري للأقليات والمجتمعات إلى عدة عوامل لمواجهة العدو فإلى العامل المادي والعسكري، تبرز الحاجة سريعا إلى العاملين النفسي والفكري لتتمكن هذه الحركات من تعبئة الجمهور واستنهاضه، وتاليا لتمكينه من تحمل عبء النضال وتضحياته.
لئن كانت هذه العوامل الفكرية موجودة منذ بداية الصراع كما كانت الحال مثلا لدى إطلاق ماو تسي تونغ ثورته وكتابه الأحمر ومسيرته المليونية على مدى الصين، فإن ثورات أخرى كانت تفتقد إلى هذه البنية الفكرية والعقائدية،
لم يكن فيدال كاسترو ماركسيا في بداياته، بل كان بعيدا جدا عن ذلك، كان المحرك الأساسي للثورة التخلص من الديكتاتورية ولاحقا من الهيمنة الأميركية
لم يكن ثوار الجزائر ماركسيين ولا حتى اشتراكيين، بل أن التخلص من الاستعمار الفرنسي كان هو المحرك الأساسي لهم، وأزعم أن جمهورهم كان بمعظمه متدينا.
اندفع الفلسطينيون في مقارعة المشروع الصهيوني ليس لإيمانهم بالماركسية (زمن الجبهة الشعبية وتفرعاتها) ولا لدافع ديني زمن حماس والجهاد،
هم اندفعوا أساسا للحفاظ على أرضهم وشعبهم في مواجهة المخطط اليهودي الزاحف عليهم.
ان استمرار المواجهة وتصاعدها وتعقيدها يدفع الثوار إلى البحث عن هيكليات عملية وعن منظومة فكرية تحث الجمهور على الالتحاق بالثورة.
لطالما فرض واقع الحرب الباردة إيقاعه على المقاومين، وكان خيار الالتحاق بالمعسكر الاشتراكي بديهيا، ردا على صلف الاستعمار الغربي المسيطر على المنطقة منذ عقود، ونظرا لما تؤمنه منظومته الفكرية من عدالة اجتماعية، في مواجهة حلف غربي لم يشبع بعد من نهب موارد الشعوب والبطش بها.
على مدى عقود كانت الماركسية هي الشعار الطاغي لدى معظم حركات التحرر، وحتى تلك المنطلقة من خلفيات قومية حاولت التماهي مع الموجة عبر اعتماد الاشتراكية كحل وسط، لصعوبة تقبل شعوب المنطقة للفكر الماركسي.
من جهتها حاولت الأحزاب الماركسية التأقلم مع الطابع القومي للصراع مع الكيان الغاصب، فنحا الحزب الشيوعي اللبناني منحى قوميا في مؤتمره الشهير، وضمت الجبهة الشعبية في صفوفها الكثير من القوميين وخاصة في عملياتها الخارجية في أوروبا.
في مرحلة الثمانينات شكل نجاح الثورة الإسلامية في إيران منعطفا عاما نقل الصراع إلى مكان آخر، وترافق ذلك مع انهيار الإتحاد السوفياتي وانتقال مجموعة الدول الاشتراكية إلى حلف الناتو، وتراجع دور الأحزاب اليسارية في العالم.
بسرعة أصبحت المقاومة بدون ظهير يحميها، وذهب عرفات إلى أوسلو، وربحت الطوائف الحرب الأهلية وتربعت على العرش تتقاسم غنائم السلطة في لبنان،
أدى ذلك كله إلى بروز مقاومة جديدة تشكل الرافعة الدينية عمادها.
هكذا انتقل مقاومون في لبنان من حركة امل إلى أمل الإسلامية، إلى حزب الله،
ونقل الشيخ ياسين المقاومة في فلسطين إلى ميدان الجهاد ورافعته الدينية.
بسرعة تلقف الجمهور هذا الانتقال، فالرافعة الدينية تملك جاذبية خاصة، مجتمعنا أساسا متدين ولم تستطع أحزاب اليسار تغيير ذلك،
والتعبئة الدينية أسهل بكثير، وتملك أساسا جهازا فاعلاً عبر رجال الدين الذين يوصلون صوتها بسرعة إلى كل الحارات والبيوت.
الخلاصة من كل ذلك أن إرادة الصراع هي الأساس، وهي الباقية مهما تغيرت الظروف، فالشعوب تستنبط الرافعات الفكرية وتغيرها عند الضرورة، ويستمر الكفاح وإن بأشكال أخرى.
لم يذهب أهل الجنوب إلى الأحزاب القومية واليسارية بالصدفة، بل لأنها شكلت لهم رافعة فكرية لقتال المشروع اليهوهي في فلسطين ولبنان، حتى أن أنطون سعادة ربط تأسيس الحزب بالصراع مع المشروع الصهيوني،
ولم يغفل سعادة العامل الديني حين أعلن ان لا عدو لنا يقاتلنا في أرضنا وديننا إلا اليهود.
ولم يكن احتضان أهل الجنوب للمقاومة الإسلامية يهدف إلى إقامة دولة إسلامية، بل يهدف إلى الدفاع عن الأرض والشعب والمصير، وغالبا ما تطرق سماحة الأمين العام إلى البعد الوطني والقومي للصراع.
كذلك لم يذهب المقاتل الفلسطيني إلى التنظيمات الماركسية إلا للدفاع عن فلسطين وما النجاح الباكر الذي حققته حركات حماس والجهاد الإسلامي إلا تأكيد على ما اوردناه.
إن عدم إدراك هذه الحقائق يؤدي إلى تشتيت الجهود في نقاشات عقيمة،
الأهم هو الصراع والضغط على الزناد في الاتجاه الصحيح، وليختر كل مقاتل الرافعة التي يشاء.
هذه هي الطريق إلى التحرير والنصر.
فلنسلكها معا.