مصالح أوروبا الاستعمارية واليهود القومية والتوراة من القرون الوسطى الى نشـأة الصهيونية – الحلقة الأولى

مصالح أوروبا الاستعمارية واليهود القومية والتوراة من القرون الوسطى الى نشـأة الصهيونية – الحلقة الأولى

البعد الديني للحروب الأوروبية الاستعمارية الأولى

عندما غزى الأوروبيون فلسطين في الحروب الصليبية في 1096م لم يكن المسيحيون منغمسون في ثقافة التوراة الذي جُمع مع الانجيل في ’ الكتاب المقدس ‘وترجم الى الانكليزية في 1539. في خطبة البابا إربان الثاني قبل الغزو في 27 تشرين الثاني 1095 في جنوب فرنسا استعان بالإنجيل (وليس بالتوراة) في اظهار الإغراءات الدنيوية وذكر ان الله “وهبنا هذه الأراضي التي تفيض لبناً وعسلاً” وعقب بان أورشليم أرض لا نظير لها في ثمارها، “بل هي فردوس المباهج”، وكانت دعوة صريحة للجهاد في سبيل الله فأشار الى تدنيس الأماكن المقدسة وخاطب “شعب الله المحبوب المختار” قائلا “انتزعوا هذه الأرض من ذلك الجنس الخبيث (المسلمين) وتملّكوها انتم” ومنح الغفران “لكل من يذهب بمقتضى السلطة التي أعطاني الرب إياها”، ووعدهم “بانكم ستنالون مجدا لا يفنى في ملكوت السموات.

قد يظن المرء لأول وهلة ان خطبة البابا كانت العامل الأهم لانخراط عدد كبير من عامة الشعب وخاصة الفقراء في الحملات الصليبية، اذا لم يقيم العوامل الاقتصادية والاجتماعية الجمة. ان معاملة الفقراء الفظة من النظام الاقطاعي السائد في ذلك الوقت والمجاعات التي حصلت، بالإضافة الى الكوارث الطبيعية، ولا سيما في شمال فرنسا وغرب المانيا، جعلت الأقنان والفلاحين يتطلعون الى اغراءات البابا في ارض اللبن والعسل كفرصة ذهبية للتخلص من أوضاعهم المزرية. من ناحية أخرى، كان نفوذ المدن الساحلية الإيطالية قد ازداد في القرن العاشر وأصبح لها اساطيلها التجارية وهيمنت على البحر الادرياتيكي والإيجي وشكلت مدن المشرق السورية المنافسة الأهم للهيمنة على تجارة البحر المتوسط. الأثرياء والتجار وخاصة تجار مدن السواحل الإيطالية، وجدوا في هذه الغزو فرصة مهمة للقضاء على هذه المنافسة وفتح أسواق جديدة لهم فدعموا ومولوا كل الحملات.هذه الدوافع الاقتصادية والاجتماعية كانت محورية للغزو واستعملوا بنجاح كبير البعد الديني كمطية لتحقيق اهداف القوى المسيطرة من رجال دين واقطاع وتجار (1). رغم عدم وجود أي نص ديني واضح في الانجيل يدعو الى ارض ميعاد مقدسة او ما شابه، فان البابا ارتكز بنجاح كبير على ثقافة الإنجيل المسيحية ومنح الغفران ووعد بمجد “لا يفنى في ملكوت السماوات” ولم يرتكز على اي ثقافة توراتية يهودية للتجييش للحرب. كذاك فلم تلتق أي مصالح اوروبية مع مصالح اليهود، بل على العكس فاليهود تعرضوا لبعض المذابح في أوروبا من بعض هذه الحملات.

من ناحية أخرى وعلى المدى البعيد، شكل هذا الغزو “نقطة انطلاق أوروبا نحو التوسع والإصرار على بسط سيطرتها على الخارج” حسب موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية-6، لعبد الوهاب المسيري (9)، وبرز ذلك بعد عدة قرون في الغزو الأوروبي للقارة الأميركية ’ الجديدة‘التي استعملوا فيها الثقافة التوراتية التي كانت قد انتشرت بشكل واسع بعد ترجمتها في بداية القرن السادس عشر فاصبحت ارض اميركا هي ’ارض كنعان‘. كذلك برروا الغزوات والحروب وحملات الإبادة ضد السكان الأصليين بأنها شبيهة بغزو بني إسرائيل لبلاد كنعان وتطبيق وصية توراتية حرفية، ” وإذا سلم ’ يهوه‘تلك الأرض بين يديك، فعليك أن تضرب كل رجالها بحد السيف ونسائها وأطفالها وماشيتها وكل شيء في المدينة، وتأخذ كل غنائمها لنفسك وغنيمة اعدائك اعطاك الله إياها”. رغم استعمال البعد الديني التوراتي فلم تلتق اي مصالح اوروبية مع مصالح اليهود في هذا الغزو ايضا. (2)

الصهيونية المسيحية وارض الميعاد

لكي نفهم طبيعة هذه العلاقة الأوروبية والإنكليزية خاصة واليهودية وكيف تبلورت لا بد من القاء الضوء على معتقدات الحركة البروتستانتية والمعتقدات اليهودية في القرون الوسطى ومدى ارتباط هذه المعتقدات بالوعد الإلهي. في بداية القرن السادس عشر قاد القس وعالم اللاهوت الألماني مارتن لوثر (1483- 1546)، الذي يتهم انه من المسيحيين الألفيين، ثورة على الكنيسة الكاثوليكية البابوية. من مطالب لوثر وحركته البروتستانتية ’ الإصلاحية ‘العودة إلى الكتاب المقدس بأكمله. ولقد تبنت الامم الانجلو-سكسونية كألمانيا وانجلترا وبعدها هولندا البروتستانتية، وتُرجمت التوراة في 1539 وانتشرت الثقافة التوراتية بين البروتستانت في إنكلترا. (2)

حسب الكاتب والباحث الفلسطيني أحمد الدبش (3) “حل ’ الكتاب المقدَّس‘ محل البابا، كسلطة روحية عليا في انكلترا، وبذلك رُسِخت في إيمان البروتستانت وخاصة الانجيليين منهم فكرة الرابطة الأبدية بين اليهود وفلسطين، باعتبارها وطنهم القومي، الذي أٌخرجوا منه، والذي يجب أن يعودوا إليه. معظم الطوائف الانجيلية (وليس جميعها) اتبعت منهج، سُمي ب”التدبيري” (القدري، dispansationalism) (5) في ما بعد، رسخ الايمان بان الكنيسة المسيحية هي مملكة الله في السماء وان إسرائيل هي مملكة الله على الأرض وان علاقة الله مع الجنس البشري تنقسم الى سبعة أدوار ونحن في الدور السادس وبانتظار الدور السابع والأخير الذي سيرجع فيه المسيح للأرض لتأسيس حكمه الألفي على مملكة الله على أرض إسرائيل. أهم الإشارات لهذه العودة هي

  1. عودة شعب الله المختار الى ’ أرضه ‘الذي حدث في 1948.
  2. احتلال القدس الذي حدث في 1967.
  3. بناء هيكل سليمان الذي يعمل له وينتظره ’ المؤمنون‘

هذه الإشارات لم تكتمل كليا فهي تنتظر ‘عودة ‘كل الأرض المقدسة الى ’ شعب الله‘ وضم القدس وبناء هيكل سليمان (بعد تدمير المسجد الأقصى) كشروط مسبقة لكي تندلع معركة “هر مجيدون” التي سينتصر فيها المسيحيون ضد ’الكافرون‘ ويعتنق ما تبقى من اليهود المسيحية وتؤسس بذلك مملكة الله الالفية. هذا الايمان أدى تدريجيا من خلال الدعوات والنشاطات بين 1600 و1900 لترجمته سياسيا في بداية القرن العشرين. من هذه الدعوات والنشاطات (2):

  1.  عام 1588، دعي اللاهوتي توماس برايتمان في كتابه “القيامة، القيامة” الى إعادة اليهود لان “الله يريد عودة اليهود الى فلسطين لعبادته حيث يفضل ان يعبد من هذا المكان”.
  2. عام 1621 نشر “السير هنري فنش”، البرلماني والمستشار القانوني لملك إنكلترا، دراسته حول “الاستعادة الكبرى للعالم” ودعي فيها الى استعادة “امبراطورية الامة اليهودية”. كذلك قال في كتاب له “ليس اليهود قلة مبعثرة، بل إنهم أمة، ستعود الى وطنها، وستعمر كل زوايا الأرض، وسيعيش اليهود بسلام في وطنهم الى الأبد”.
  3. عام 1649 “وجه لاهوتيان (بيوريتانيان) بريطانيان، جوانا وألينزر كارترايت، من هولندا نداء الى الحكومة البريطانية يطلبان فيها بإعادة اليهود لإنجلترا وذلك ليصبح تشتيتهم كاملا في كل بقاع الأرض (اكتمال التشتيت شرط لعودتهم حسب معتقداتهم) وان يكون لبريطانيا بعد ذلك شرف نقلهم على بواخرها الى فلسطين تحقيقا للإرادة الإلهية.
  4. في بداية 1800 اعتبر امير شافتسبوري السابع (Anthony Ashley-Cooper) ان اليهود، “على الرغم من أنهم شعبٌ عنيد، سودُ القلوب، موغلون في الانحلال الأخلاقي الى جانب تعنّتهم وجهلهم بالإنجيل”، هم الامل في العودة الثانية للمسيح بعودتهم الى فلسطين وهو أول من أطلق دعوة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”.  شافتسبوري كان مؤثر جدا على السياسة البريطانية من خلال قربته العائلية مع اللورد هنري بالمرتسون، وزير الخارجية ورئيس الوزراء في ما بعد، واعتباره شخص موثوق (Confident) عند الملكة. 
  5. أسس المبشر الايرلندي، القس جون نلسون داربي (1801-1882) حركة مسيحية صهيونية سميت ب”التدبيري” (dispansationalism) واهم عقائدها ان إسرائيل كانت مملكة الله على الأرض وان المجيئ الثاني للمسيح لن يتم الا بعد رجوع كامل ‘ارض إسرائيل‘الى اليهود. هذا المعتقد لاقى شعبية كبيرة بين البروتستانت في إنكلترا والولايات المتحدة.
  6. الفلاسفة الالمان تاثروا بالتوراة أيضا ومنهم جوهان فيشت (1762-1814) الذي دعى الى “السيطرة على الأرض المقدسة وارسال جميعهم (اليهود) اليها”.

تبلور الاستراتيجية الاستعمارية البريطانية

بعد تعاظم قوة محمد على باشا في مصر في 1830 وسيطرته على بلاد الشام وتشكيله بذلك تهديدا للمصالح الاستراتيجية البريطانية، تحالف الإنكليز والروس مع السلطنة العثمانية وهزموه واجبروه على العودة الى مصر في 1840. في آذار من العام نفسه استغل رجل المال اليهودي اللورد روتشيلد الوضع وأرسل الرسالة التالية إلى اللورد هنري بالمرتسون، وزير الخارجية البريطاني:

“إن هزيمة محمد علي وحصر نفوذه في مصر ليسا كافيين … وكانت فلسطين دائما بوابة على الشرق، والحل الوحيد هو زرع قوة مختلفة على هذا الجسر في هذه البوابة، لتكون هذه القوة بمنزلة حاجز يمنع الخطر العربي ويحولُ دونه، والهجرة اليهودية إلى فلسطين تستطيع أن تقوم بهذا الدور، وليست تلك فقط خدمة لليهود يعودون بها إلى أرض الميعاد مصداقا للعهد القديم، لكنها أيضا خدمة للإمبراطورية البريطانية ومخططاتها، فليس مما يخدم الإمبراطورية أن تتكرر تجربة محمد علي سواء بقيام دولة قوية في مصر أو بقيام الاتصال بين مصر والعرب الآخرين”.

اللورد هنري بالمر ستون الذي لم يكن متدينا عرف الأهمية الاستراتيجية لزرع كيان غريب في سوريا الطبيعية يقطع اوصالها ومنع قيام جبهة عربية وعرف أهمية الحلقة ’اليهودية‘ الضائعة في تطبيقها، كما ذكر تشارلز ه. تشرشل، احد انصار الصهيونية المسيحية، في 1841 في رسالة الى المجلس اليهودي في لندن والتي قال فيها “ان استعادة اليهود لوجودهم كشعب في فلسطين امر ميسور اذا توافر عاملان اثنان: أولهما ان يتولى اليهود انفسهم وبالإجماع طرح موضوع العودة على الصعيد العالمي، وثانيهما ان تبادر القوى الأوروبية الى دعمهم تحقيقا لذلك”. بناء على ذلك حوّل بالمرتسون الوعد الإلهي وطموح وجهود الانجيليين واليهود القوميين الى برنامج جيو-سياسي ربط به اليهود بالمصالح البريطانية في الشرق الأوسط، ففي 1839 تم انشاء اول قنصلية انجليزية في القدس وتعيين قس بروتستانتي نائبا للقنصل وفي 1844 أسس البرلمان الانجليزي لجنة “إعادة أُمة اليهود الى فلسطين” وفي 1845 بدأ العمل ب”المكتب الاستعماري” الذي وضع الخطط الأولية لإقامة مستعمرة يهودية في فلسطينوفي 1865 تم تأسيس “صندوق استكشاف فلسطين” في لندن برعاية الملكة فكتوريا وبرئاسة رئيس أساقفة كانتربري لتمويل البعثات الاستكشافية التي وضعت الخطط للتمهيد للاستيطان.

يتبع