الأسباب الموجبة لتعديل دستور سعاده ووجهة هذا التعديل

الحلقة الأولى

الدستور هو الاساس الحقوقي للدولة، هو قانون القوانين، لذلك فهو شي لا يجوز تعديله بسهولة ولأسباب ليست جوهرية وليست ضرورية. والأسباب الجوهرية والضرورية لا تنشأ كل يوم أو كل سنة أو حتى كل عشر سنوات، بل إنها قد لا تنشأ طيلة مئة سنة. وهذا يعود الى درجة تطور المجتمع وسرعة هذا التطور وعمقه ومداه. إن كل تطور كبير في أحوال المجتمع ونشوء حالات وحاجات أساسية في بنيته غير ملحوظة وغير منظمة في دستور الدولة القديم، يتطلب تشريع دستوري جديد يلبي ويواكب هذه الحالات والحاجات وينظمها.

بيد أن أي تعديل دستوري يجب أن يلتزم قواعد أساسية لا يحيد عنها أبداً، وهذه القواعد يمكن تلخيصها في إثنين: القاعدة الأولى هي العقل، والثانية هي الدستور نفسه الواجب تعديله.

نعني بالعقل المعارف العلمية والمنطقية والإختبارات الإنسانية المتراكمة، فإذا كان “العقل هو الشرع الأعلى في الحياة”، كما تقول عقيدة سعاده، فإن قاعدة العقل يجب أن تكون القاعدة الواجب الالتزام بها في أي تعديل دستوري. يقول ابن رشد في الشريعة الإسلامية: إن الله لا يمكن أن يعطينا عقولاً ويعطينا شرائع مخالفة لها.

أمّا الدستور القديم نفسه فيجب التقيد “بفلسفته” في أي تعديل دستوري يُجرى عليه.

فيما خصّ دستور الحزب السوري القومي الاجتماعي تحديداً هناك من يضيف قاعدة الالتزام بالعقيدة كقاعدة ثالثة أساسية لأي تعديل دستوري، لكننا هنا، مع قبولنا بضرورة الالتزام بالعقيدة، فإننا نرى أن العقيدة هي جزء من الدستور في مادته الثانية وإن قولنا بوجوب الالتزام بالدستور يعني وجوب الالتزام بالعقيدة فلم ندرج قاعدة الالتزام بالعقيدة كقاعدة ثالثة مستقلة.

إن الحاجة الى التعديل تنشأ مع حدوث تطورات كبيرة وجوهرية في الدولة والمجتمع، وازدياد الحاجة لإضافة أو لتعديل أو لتغيير بعض القوانين والتشريعات التي كانت صالحة قبل حصول تلك التطورات والحاجات وصار من الواجب تطويرها. إن كل تطور اجتماعي اقتصادي سياسي كبير هو بحاجة لتشريع جديد ينظمه، ودائماً على الأساس الذي قامت عليه الدولة.

ومن الهام جداً إعادة التشديد على أن التطورات والتغيّرات الكبرى والجوهرية في أحوال الدولة المجتمع، التي تستدعي تعديلاً دستورياً، لا تحدث فجأة وبسرعة، أمّا أن يحدث التعديل في الدستور كل سنة أو كل بضع سنوات، أو أن تحدث عدّة تعديلات في سنة واحدة كما حدث في الحزب سنة 1970 فهو شيء غير طبيعي ويدلّ على تخبط وأزمة وعبث خطير!

لقد تعرّض دستور الحزب السوري القومي الاجتماعي الأصلي الذي وضعه سعاده سنة 1937 الى تعديلات كثيرة ومتكررة حدثت بعد استشهاده سنة 1949. وهذه الكثرة وهذا التكرار، وحدهما، يكفيان للقول بأن تلك التعديلات كانت بالإجمال عشوائية وارتجالية وغير مبنية على قواعد وأسس علمية صحيحة ومتينة، وغير منطبقة على قواعد وأسس النظام القومي الاجتماعي الجديد الذي بناه سعادة، وهذا يعني دون أدنى شك بأن تلك التعديلات لم تلتزم القواعد الثلاث المذكورة أعلاه، أي العقل والعقيدة والدستور، وخاصّةً العقيدة.

إن قاعدة التزام العقيدة، أي أن يكون دستوراً منبثقاً من عقيدة ومبنيّاً عليها، يمكن أن يكون غريباً بالنسبة للكثيرين من غير القوميين الاجتماعيين. لكن عندما تكون العقيدة هي عقيدة فلسفية، أي “نظرة شاملة الى الحياة والكون والفن”، كالعقيدة القومية الاجتماعية، يصبح كل شأن من شؤون الحياة، كالسياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة وغيرها، بما في ذلك الحقوق والنظام العام، أي الدستور، شأناً تتناوله هذه العقيدة وتنظر إليه نظرة خاصّة على أساس مفاهيمها وقواعدها الخاصّة.

إن التعديلات العديدة والمتكررة في دستور الحزب أتت متناقضة وحاملةً أفكاراً ومفاهيماً متضاربة مع بعضها في كل مرة، فمثلاً:

مرة يُعتمَد مبدأ أن “الأمناء” هم مصدر السلطة وهم السلطة في نفس الوقت، أي أنهم وحدهم ينتخبون السلطة التشريعية المؤلفة منهم حصراً. وهذا ما كان يُعمل به منذ 1951 الى 1970.

 ومرة ثانية يُعتمَد مبدأ أن القوميين أعضاء الحزب كلهم هم مصدر السلطة والأمناء لا دور لهم فتُلغى رتبة الأمانة بالمرة ويصبح الترشح لانتخاب السلطة التشريعية متاحاً للجميع. وهذا ما عُمِل به عقب مؤتمر ملكارت الشهير سنة 1970.

ومرة ثالثة يعاد العمل برتبة الأمانة ومبدأ أن الأمناء هم وحدهم المؤهلون لتولّي السلطة مع إضافة مبدأ أن القوميين هم مصدر هذه السلطة، لكن لم يتم احترام مبدأ أن القوميين هم مصدر السلطة عندما أضيفت عبارة “حسب رتبهم” أو عبارة “ويعبِّر عنهم الأمناء”!! أي أن الأمناء ينوبون عن القوميين بانتخاب السلطة، وهذا معناه الحقيقي أن الأمناء أصحاب السلطة هم أيضاً مصدر هذه السلطة وليس القوميون هم مصدرها، هذا معناه الحقيقي ان القوميين لا يستطيعون أو لا يجوز لهم أن ينتخبوا السلطة التشريعية في الحزب، بل هم بحاجة لمن ينتخبها بالنيابة عنهم!!

وكل تلك التعديلات قد جرت في الحزب وكأن الحزب هو حقل اختبار وتجارب وليس بناءً متيناً قوياً على أساس متين وقوي من عقيدة صحيحة واضحة ونظام جديد للحياة

أمّا الدستور الحالي للحزب فيقرّ بمبدأ أن القوميين هم مصدر السلطة الفعلي (لقد أُزيلت جملة “يعبر عنهم الأمناء”)، لكن هذا الإقرار بقي إسمياً فقط، لأنه قد تمّ الاحتيال على هذا المبدأ عندما مُنِع القوميون من انتخاب السلطة التشريعية مباشرة وسُمِح لهم فقط بانتخابها بالواسطة عبر ما استحدثوه وسمّوه “المجلس القومي”، وهذه فذلكة تجعل القوميين ينتخبون مَن ينتخِب السلطة، ولا ينتخبون السلطة نفسها. وهذا معناه أن القوميين ليسوا مؤهّلين لانتخاب السلطة، بل هم فقط مؤهلون لانتخاب مَن هو مؤهّل لينتخب السلطة عنهم!!

هذا معناه أن مصدر السلطة هو المجلس القومي وليس القوميون هم مصدرها، فهؤلاء هم مصدر وجود المجلس القومي فقط وليسوا مصدراً للسلطة نفسها!

وكل هذا الارتباك والتردد والحيرة، وبالتالي كل هذه التعديلات قد حدثت بين سنة وأخرى أو خلال سنة واحدة (سنة 1970 وحدها حدثت أربع تعديلات!)

ولا بأس هنا من إعطاء القارئ فكرة مختصرة عن تلك التعديلات:

1 – أول تعديل جرى في 16-11-1951 عن المجلس الأعلى برئاسة الأمين فؤاد أبي عجرم، وحمل عنوان: “المرسوم عدد 8”.

2 – ثاني تعديل جرى في 24 و25- 1954 عن المجلس الأعلى برئاسة الأمين فؤاد أبي عجرم، ولم يحمل عنواناً أو رقماً.

3 – ثالث تعديل جرى في 23-4-1970 عن المجلس الأعلى برئاسة الأمين منير خوري وحمل عنوان: “المرسوم رقم 10” مع قانون انتقالي بدون رقم.

4 – رابع تعديل جرى في 6-7-1970 عن المجلس الأعلى برئاسة الأمين جبران جريج وحمل عنوان: “لائحة بالقرارات المتخذة في جلسات المجلس الأعلى المتعلقة بالشأن الدستوري”.

5 – خامس تعديل جرى في 6-7-1970 بنشر دستور مع نصوص جديدة شملت المرسومين 9 و 10 عن المجلس الأعلى نفسه، وحمل عنوان: “الدستور”.

6 – سادس تعديل جرى في 16-11-1970 عن المجلس الأعلى برئاسة الأمين عصام المحايري، وحمل عنوان: “القرار عدد 2”.

7 – سابع تعديل جرى في 28-4-1976 عن المجلس الأعلى برئاسة الأمين بشير عبيد، وحمل عنوان: “القانون الدستوري عدد 11”.

8 – ثامن تعديل جرى في 25-6-1980 عن المجلس الأعلى برئاسة الأمين مصطفى عزالدين، وحمل عنوان: “قانون دستوري عدد 12”.

9 – تاسع تعديل جرى في 3-6- 1984 عن المجلس الأعلى ذاته وحمل عنوان: “قانون دستوري عدد 14”.

10 – عاشر تعديل جرى في 10-11- 1991 عن المجلس الأعلى برئاسة الأمين منير خوري.

وبعد هذا التاريخ جرت أيضاً تعديلات سنة 2001 و2008.

الخطير في الأمر هو أن كثرة هذه التعديلات وتضاربها وتناقض المفاهيم التي بُنيت عليها قد أحدثت بلبلة بين القوميين وتسببت في التباسات فكرية لا زالت متفشّية بينهم لحد اليوم، وأدت الى غياب” وحدة الروح “

إذاً، من الواضح جداً أن تلك التعديلات كانت في مجملها ارتجالية ومتسرّعة لم تلتزم قواعد التعديل الثلاث التي ذكرناها في بداية هذه المقدمة، بل جرت في مناخ “الصراع على السلطة” في الحزب. إنها لم تأت بعد درس متعمّق لدستور سعاده وفكره الدستوري وفلسفته ونظامه الجديد كما كان يُفترض أن يحدث.

ودليلنا على ذلك هو أن سعاده عندما عاد الى الوطن سنة 1947 من مغتربه القسري الذي دام تسع سنوات، ووجد الانحراف الفكري والسياسي والخروج عن العقيدة ونظامها متفشياً في الحزب، أعلن في محاضرته الأولى في الندوة الثقافية أوائل 1948 أنه “لا بد من الاعتراف أنه كان في الدوائر العليا في الحزب تفسّخ في الأفكار والروحية وفي النظر الى الحركة ومراميها”، وقال:

“إن الإقدام على الخروج المذكور لم يكن ممكناً ألّا بعامل إهمال تاريخ الحزب وإغفال درس عقيدته ونظرته الى الحياة والكون والفن”.

وتجب الملاحظة هنا أن سعاده كان قد حلّ المجلس الأعلى سنة 1947، وأجرى عدّة تغييرات في أعضاء مجلس العمد ثم عمد الى حلّه قبيل استشهاده سنة 1949، وأن أعضاء هذين المجلسين الذين أقصاهم سعاده لعدم كفاءتهم، هم أنفسهم الذين تولّوا قيادة الحزب بعد استشهاده، وهم أنفسهم من أجرى معظم التعديلات الدستورية المشار إليها!

هذا يُرينا كيف تمَّ التلاعب بميراث سعاده الفكري وبما تركه من إبداعات في الفكر والفلسفة و”النظام الجديد”، وكيف تمَّ العبث في دستور الحزب الذي أنشأه وقاد مسيرته ورواها بدمه الزكي.

قد يكون كلامنا عن العبث بالقضية والحركة التي أنشأها سعاده وقادها ورواها بدمه، كلاماً نافراً وجارحاً للكثيرين من أعضاء الحزب اليوم، خاصةً الذين لا زالوا يفهمون النظام أنه مجرد طاعة للمسؤولين، ويفهمون الثقة التي بُنيَ عليها النظام أنها “عمياء”. لكن لا، فسعادة قد علّم وقال “إن النظام هو شيء عميق جداً في الحياة” وإنه نظام الفكر والنهج قبل أن يكون نظام الشكل، وقال “إن الثقة تُمتحَن”… أي لا يجب أن تكون عمياء، قال:

“إن مبدأً أساسياً من مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي المناقبية هو مبدأ الثقة، فعلى أساس الثقة تقوم حركتنا وبالثقة نعمل، ولكن الثقة تُمتحَن كما في مسألة الرفيق شكور. ومراجع الحزب لا تفهم الثقة كشيء شعري خيالي، بل كشيء حقيقي واقعي…. الثقة تتطلب الصراحة الكلية والجلاء التام”.

إن كلامنا يقرِّب الناس الى سعاده وقضيته وحركته الصحيحة، ولا يبعِده، فالناس يجب أن تعرف أن ما تراه من مظاهر الفساد الراهن هو شيء ليس من سعاده ومبادئه وقضيته بشيء، إنه أمراض تفتك بالحزب كما تفتك بجميع الأجسام الحيّة، لكن التغلب على المرض يبدأ في الاعتراف بالمرض ودرس أسبابه تمهيداً لمكافحته.

إنه لمن الضرورة كتابة نصّ دستوري كامل في موادِّه وفي مراسيمه الدستورية مصحوباً بشرح مفصّل للأسباب الموجِبة لتعديل دستور سعاده الموضوع سنة 1937، والذي عدّل فيه سعاده سنة 1947، وأهمّ تلك الأسباب هو استشهاد سعاده وغيابه كصاحب السلطة وكمصدر للسلطة بنفس الوقت، ونشوء الحاجة لوضع مواد ومراسيم دستورية تعيِّن مصدر السلطة من بعده وتوزع السلطات وتعيِّن كيفية انبثاقها.