د. جهاد نصري العقل في ضيافة مركز سليم سعد الثقافي

استضاف مركز سليم سعد الثقافي الدولي في عين زحلتا، في الاسبوع الماضي، ندوة برعاية وزير الثقافة محمد المرتضى حول كتاب”رواد من بلاد الأرز” لمؤلفه الصحفي فادي رياض سعد، وكانت كلمات لممثل وزير الثقافة الشاعر أنطوان سعاده، ومدير المركز البرفسور سليم سعد، ود ليليان عقل، ومكرم العريضي، والمؤلف ود جهاد نصري العقل . وفيما يأتي كلمة د العقل.

 أشعر باعتزاز وفخر وكرامة عندما أستقرئ التاريخ عن عواصم ثقافية منتشرة على امتداد أديم أرضنا الخصيبة؛ هنا في بيروت وجبيل ودمشق وأوغاريـت والقدس وهناك في بغداد وبابل وعمان وهنالك في قرطاجة والأندلس، حيث أبصر الحرف ثمّ الكتاب النور وترعرع ونشأ وانتشر في العالم وله اقيمت الصروح الفخمة مكتبات رسمية، وعامة، وخاصة، وجوالة. وأضحت كنوز العالم تقاس بمخابز معارفها لا بخزائن أموالها ومخازن أسلحتها، على الرغم من أهميتها في صراع المصالح.

وأقلب الصفحة وأشعر بالألم والحزن والغضب إزاء ما تعرضت له هذه العواصم الحضارية من تدمير وتخريب ونهب لمكتباتها التراثية على يدّ غزوات عصابات الرومان واليهود والمغول والأتراك والبوشين الأب والإبن والدواعش وأشباههم وامتداداتهم المحلية. والحزن والألم والغضب متواصل على ما وصلت إليه الحالة في مجتمعنا البائس من اهمال مقصود للغتنا القومية وانتشار وباء العداء للكتاب والمكتبات والمطالعة، والسخرية من المؤلفين والأدباء والكتاب، ومما زاد الطينة بلة الشعارات الفارغة التي تغدقها علينا منظمة اليونسكو من أمثال: بيروت عاصمة عالمية للكتاب، وللأعلام.. والقدس عاصمة ثقافية للعالم العربي وغير ذلك، في الوقت الذي يروجون فيه “البرامج التعليمية والتوجيهية”! وفيها ما في الدسّم من سمّ قاتل لتاريخنا السياسي الثقافي ولروحيتنا القومية وتغاض عن الأعمال الاجرامية التي ترتكبها القطعان الصهيونية وعملائها في تدمير معالمنا التراثية، لطمس حضارتنا.

ولكن، في الليلة الظلماء هذه يفتقد الكتاب وأهميته ودوره التربوي الثقافي في إنعاش الروحية النهضوية الثورية التقدمية المستقبلية للأجيال الجديدة، وفي هذا السياق يأتي هذا الانجاز الثقافي النوعي الابداعي المتمظهر في كتاب رواد من بلاد الأرز، الذي يعيد الحياة إلى اللغة القومية والكلمة المكتوبة والكتاب، بانجاز توثيقي ملحمي رائد سيأخذ مكانه اللائق في السجل الذهبي في تاريخ الحضارت الانسانية. وقد تحدث السيد وزير الثقافة في مقدمته عن ريادة أمتنا في الثورات الثقافية الكبرى عبر التاريخ، وأشاد بهذا الكتاب كمولود ثقافي مميّز، مهنئا المؤلف الرائد الجديد رياض سعد على هذا الانجاز الحضاري الذي يؤكد من جديد موقع لبنان البلد الرسالة في محيطه الطبيعي، ودور أبنائه في الخلق والابداع والتفوّق.. وبعث ثقافة الحياة وبناء الانسان المجتمعي الجديد على قواعد المحبة السلام والعطاء والتضحية وطلب المثل العليا في حياة أجمل وأرقى.

وبالنسبة لي، فقد ساهمت، بتواضع، مع المؤلف الصديق فادي، في انجاز هذا العمل، وقد شرحت في الخاتمة أهمية هذا الكتاب ، من نواحي الشكل والمضمون والغاية منه: ” في أنّه يأتي في زمن، يبشّر فيه المتخاذلون الجهلة، بأنّ عصر الكتاب قد ولى إلى غير رجعة، فإذا بهذا الإنجار المذهل حقا، يسقط هذا المقولة البائسة، ويؤكد أن الكتاب كان وسيبقى أمّ المعارف، وسيبقى لبنان عاصمة للكتاب لا تنضب ولا تجف ولا تتراجع عن اثبات مكانتها في التاريخ على أنها من أمّة مرضعة للحضارة الإنسانية من خلال أبجديتها ومدارسها الفكرية ومعلميها الرسل القادة الرواد لا، لن ينقرض الكتاب، فليست الكلمة المكتوبة ملكا ملكوته من هذا الكون، فالكلمة هي ملكوت الكون، فالكلمة هي الله، كانت في البدء وتبقى إلى الأزل، واقرأ باسم ربك الذي خلق ورزق الانسان العقل الشرع الأعلى الذي لا شرع بعده .

في زمن رديء يعادي فيه جيل بكامله الكتاب والمكتبات والمطالعة، سأبقى مصرا مع فيكتور هوغو على أنّ المستقبل للكتاب لا للسيف، ومع سعاده على أنّ المجتمع معرفة والمعرفة قوّة، إنّ الامة التي تريد أن تحيا في المستقبل وتتقدم وتتطوّر عليها أن تلقح أبناءها بلقاح حبّ المطالعة الهادفة حيث يعجزالتطوّر الهائل الفوضوي في وسائل الإعلام والمعرفة أن يصادر دور الكتاب الذي كان وسيبقى القوة الروحية القادرة على شحن النفوس بالمعرفة، القطب الأهم في بلوغ الحقيقة التي هي وجود ومعرفة “.

وفي الاضافة اقول: يأتي تصنيف هذا الكتاب في دائرة تأليف المعاجم والفهارس وأعمال التوثيق والدوريات الخاصة بارشاد الباحثين الى المصادر والمراجع التي تهديهم وترشدهم إلى الحقائق والأراء الضرورية لإنجاح أبحاثهم والتعرف على معالم بلادهم وروادها. ويعود الفضل لهذا العلم لمؤسسه “ابن النديم”، الذي وضع في العام 938 م. كتاب الفهرست، وهو أول ببلوغرافيا عربية جمع فيه أسماء الكتب التي عرفها حتى تاريخه.  ونذكر إضافة لهذا المؤلف على سبيل المثال: “معجم المطبوعات العربية والمعربة” تأليف يوسف سركيس. “فهرست الكتب الموجودة بالمكتبة الأزهرية”. “النشرة المصرية للمطبوعات، مكتبة العصر الجاهلي ومراجعه” تأليف عفيف عبد الرحمن. ” فهرس موضوعي مجاميع الكتب الموجودة في المكتبة المركزية” في بغداد. وكانت لي مساهمة في هذا المجال باصدار كتاب “مراجع بحثية في الهجرة من لبنان” ويتضمن 2500 عنوان كتاب وبحث متخصص في هذا الموضوع الى جانب فهرست للمكتبة القومية الاجتماعية بين عامي 1932و2000.  نورد هذه النماذج القليلة عن الفهرست أو الببلوغرافيا، وهي كثيرة في معظم اللغات نظرا لأهميتها في الذاكرة التوثيقية للحضارة الانسانية، التي تحفظ الماضي للاستفادة من ينابيعه (مصادره ومراجعه)، من أجل رفد الحاضر والمستقبل بالأسس الفكرية الضرورية في بناء التراث الحضاري للانسانية الراغبة في التطوّر والتقدم نحو الأفضل. في هذا السياق، يأتي كتاب “رواد من بلاد الأرز”، بأبوابه الأربعة: المعالم الأثرية والتاريخية والثقافية، تاريخ الصحافة المحلية والمهجرية، الابداعات اللبنانية، تاريخ الهجرة وأسبابها، عملا موسوعيا ودليلا سياحيا. يجمع بين دفتيه نخبة من رواد لبنان بجناحيه المقيم والمغترب، ليعرّف العالم بهذه النخبة من المبدعين الذين زرعوا العلم والفن والفلسفة لخير الانسانية جمعاء.  

يضعنا هذا الكتاب أمام مسؤولية وطنية تاريخية، تتمحور حول السؤال: أين دور وزارات الثقافة والاعلام والتربية واتحادات الكتّاب والمؤسسات الثقافية والمتنورين في دعم وتقدير مثل هذا الانجاز، وتشجيع الجيل الجديد على حبّ الكتاب والعطاء.

طبعا لم أنس صديقي المؤلف والناشر الصحفي فادي رياض سعد الذي له مني كل التقدير والاحترام، على ثقافته الوطنية وجهده وصبره وتحمله من اجل تحقيق هذا الحلم، الذي حسبته في اللحظات الأولى من الأمور المستحيلة، ولكنّ عزيمة فادي أثبتت أنّ لا مستحيل في وجه الارادة المصممة الواعية المدركة وأمام الهمّة التي تصغر في عينها العظائم. ورب ّهمّة أحيت أمّة. سيبقى فادي سعد الرائد الذي اختصر “رواد من بلاد الأرز”، في كتاب مساحته تماهي مساحة بلاد الأرز بالكيلومتر، ولكن قيمته المعنوية تتخطى ذلك كثيرا، فهو واحد من هؤلأ الرسل الذين زرعتهم أمتنا في العالم مشاعل حق، وخير، وجمال، وهداية. وإذا كان البعض سيوجه إلينا ملاحظة انتقائية في بعض مواد هذا الكتاب، فله كلّ الحقّ في ذلك، والسبب هوتقني فقط ومرتبط بمساحة الكتاب وعدد صفحاته، ومع ذلك فعذرا. مع تقديرنا لرواد لم يذكروا في هذا الكتاب.