رحلة الألف ميل الإنقاذية تبدأ بثلاث خطوات وإلا فلا إصلاح ولا من يُنقذون

رحلة الألف ميل الإنقاذية تبدأ بثلاث خطوات وإلا فلا إصلاح ولا من يُنقذون

مما لا شكّ فيه أن فرص النهوض في لبنان لا تزال متاحة ولكن ضمن مسار إصلاحي شاق وطويل ويشوبه عدد من التحديات والعراقيل، وهو يتطلّب عدد من الإجراءات المتمثّلة بدايةً بانتخاب رئيس جمهورية، ما يعني تحسّناً ملموساً على صعيد المناخ الداخلي العام، يليه بتشكيل حكومة بشكل سريع تفعّل عجلة الإصلاحات الهيكلية الضرورية الكفيلة بتعزيز عامل الثقة بشكل عام، مع ما يمثّل ذلك من حجر أساس لاستعادة إنتاجية المؤسسات اللبنانية من جهة، كما ويتطلّب انحساراً تدريجياً للعوامل الإقليمية المعاكسة ذات التداعيات السلبية على الساحة المحلية من جهة أخرى، كي يتحقّق الانفراج الاقتصادي المنشود، الذي يحتاج باختصار إلى توافر عدد من العناصر المترابطة لضمان نجاحه، كما قلنا حكومة توحي بالثقة وذات مصداقية قادرة على تطبيق ما يلزم من إجراءات، الحشد الدولي والدعم المالي لتمويله، عامل الوقت لتُترجم هذه الاصلاحات بشكل فعلي ونبدأ بقطف ثمارها، والأهم من كل ذلك صدق النوايا بين مختلف الأفرقاء السياسيين لضمان المناخ المؤاتي من الاستقرار السياسي والأمني.

من هنا، وفي التفاصيل، فإن المطلوب في مرحلة ما بعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة تفعيل ثلاث قنوات أساسية:

أولاً، على الحكومة الجديدة تعزيز عامل الثقة الذي يبقى الركيزة الأساسية لتفعيل قنوات دخول الدولار إلى البلاد. فالثقة كفيلة بإرساء مناخ من الارتياح من شأنه أن يكبح الطلب على الدولار بالدرجة الأولى وأن يعزز دخول الدولار إلى لبنان بالدرجة الثانية، وهي عوامل مطلوبة اليوم على الأقل لكبح سعر الصرف في المرحلة المقبلة. في هذا السياق، لاشكّ في أن إتمام عملية ترسيم الحدود تحمل في طيّاتها نفحة أمل في ظلّ المآسي الاقتصادية والاجتماعية التي يشهدها لبنان، ويمكن البناء عليها لاستجرار الاستثمارات حتى قبل استخراج الغاز. ولكن التعويل فقط على موضوع الترسيم كخشبة خلاص من الأزمة لا يبدو واقعياً لاسيما وأن عملية استخراج النفط والغاز تتطلّب عدد من السنوات إضافةً إلى إقرار عدد من المراسيم والقوانين اللازمة لوضع لبنان في خانة الدول النفطية. ففي حال لم تُتّخذ كامل الإجراءات لمواكبة عملية الترسيم فإن نفحة الأمل تلك قد لا تدوم طويلاً وقد تتحوّل إلى إبرة بنج تتبخّر تداعياتها الإيجابية بشكل سريع، فما نفع الترسيم إذا لم نستطع أن نواكبه بإجراءات تكفل استخراج مواردنا الطبيعية؟

ثانياً، العمل فوراً على الحدّ من طباعة الليرة لتمويل احتياجات الدولة اللبنانية، والعمل قبل كلّ شيء على تأمين الإيرادات العامة إما من خلال تفعيل جباية الضرائب غير المجباة (أي مكافحة التهرب الضريبي) أو من خلال تعديل سعر صرف الدولار الضريبي، كالدولار الجمركي على سبيل المثال، وإن تعتبر هذه الاجراءات غير محبّذة لا اقتصادياً ولا اجتماعياً في الوقت الراهن، لاسيما في ظل ركود اقتصادي حادّ وتدهور في المستوى المعيشي للبنانيين، ولكن “وجع يوم ولا وجع كل يوم”، إذ أن هكذا إجراءات قد تكون مؤلمة على المدى القصير غير أن ألمها يبقى أفضل بكثير من ألم الاستمرار في دوامة طباعة الأموال وانهيار سعر الصرف على المدى المتوسط والطويل، فعلينا كسر هذه الحلقة بشتى الطرق وإلا فلا مفرّ من الارتطام القاسي الذي قد تمتدّ مفاعليها المؤلمة لسنوات طويلة.

ثالثاً، يتعيّن على الحكومة اللبنانية أن تواجه عدد من الملفات الاقتصادية بشكل فوري وسريع مع طرح برنامج إنقاذ وطني وصياغة خطة اقتصادية شاملة للمدى المتوسط، مع رؤية مشتركة للخسائر المالية المحققة والمرتقبة وتوزيعاً عادلاً ومنصفاً بين جميع العملاء الاقتصاديين مع إجراءات إصلاحية جريئة انطلاقاً من احتياطيات أجنبية بقيمة 10 مليار دولار وذهب بقيمة 16 مليار دولار ومساعدات مالية يمكن أن تتأتّى كلّما تعززت الثقة في الواقع اللبناني، على أن تبدأ الإجراءات الإصلاحية على أربعة محاور:

  • المحور الأول، وضع الشأن النقدي على المسار السليم مع بلوغ احتياطيات مصرف لبنان الأجنبية إلى حدود الاحتياطي الإلزامي، وذلك في ظلّ حاجات تمويلية بالعملات الأجنبية لا تقلّ عن 5 مليارات دولار سنوياً.
  • المحور الثاني، إصلاح القطاع المصرفي بجهود إعادة الهيكلة لتعزيز وضعيته المالية وحوكمته وقدرته على مواجهة الضغوط. المطلوب هنا بالدرجة الأولى إقرار مشروع قانون الكابيتال كونترول من أجل ضبط حركة الأموال من لبنان إلى الخارج، وضمان معاملة عادلة لجميع الزبائن والحدّ من المخاطر القانونية تجاه القطاع المصرفي، إذ أن فقدان الثقة في القطاع المصرفي يعني فقدان الثقة في النظام المالي ككلّ، فسلامة القطاع المصرفي لها تأثير ملحوظ على المخاطر السيادية وبالتالي على أي تصنيف سيادي محتمل للبنان.
  • المحور الثالث، تصحيح الاختلالات القائمة على صعيد المالية العامة من خلال عدد من التدابير التي يجب أن تتمحور بشكل خاص حول تقشف جدّي في الإنفاق العام من خلال تخفيض النفقات غير الثابتة (أي النفقات خارج الأجور والرواتب والتحويلات لمؤسسة كهرباء لبنان)، وذلك بالتوازي مع تعزيز تعبئة الموارد من خلال تحسين الجباية عبر مكافحة التهرب الضريبي، هذا بالإضافة إلى إصلاح قطاع الكهرباء عبر بناء محطات الطاقة اللازمة بالترافق مع رفع رسوم الكهرباء وتقليص الخسائر التقنية وغير التقنية.
  • المحور الرابع، تصحيح الاختلالات على صعيد القطاع الخارجي لتحقيق توازن ضروري في ميزان المدفوعات من خلال تحفيز التدفقات المالية الوافدة وخفض الواردات وتعزيز الصادرات. المطلوب هنا قوننة حركة الرساميل الخارجية من خلال إصدار قانون تشريعي يضبط حركة الرساميل ويتضمن وضع قائمة بالتحويلات الطارئة مع تحديد سقوف عليها، فرض قيود على استيراد السلع التي لها بدائل محلية الصنع، تسهيل تمويل استيراد المواد الأولية للإنتاج المحلي، بالإضافة إلى فرض قيود على التحويلات الخارجية للعمال الأجانب العاملين في لبنان.

من هنا وفي انتظار أي خرق إيجابي ومرحّب به على المستوي السياسي والإصلاحي، فإن تفادي السيناريو التشاؤمي ممكن جدّاً وهو يتطلّب منّا أقصى درجات الوعي والحكمة مع الحاجة إلى تقديم كلّ التنازلات الملحّة وتخفيض منسوب التباينات وتعزيز القواسم المشتركة في ما بيننا.

د. فادي قانصو