التفكير الإستراتيجي عند سعاده

قبل ان نغرف من نبع سعاده الفكري ونستخرج منه أدلة وبراهين قاطعة تظهر ملامح تفكيره الإستراتيجي وتلخِّصُ استراتيجيته القومية الإجتماعية التي نحتاج إليها في هذا الزمن العصيب لا بد لنا بداية من ان نتحدث قليلاً عن ماهية التفكير الإستراتيجي وخصائصه:

أولاً، ان نمط التفكير الذي بات يعرف اليوم بالتفكير الإستراتيجي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهوم “الإستراتيجية” الذي كان في بداية الأمر محصوراً بالفكر العسكري وما كتبه المنظِّرين والإستراتيجيين القدماء عن فنون الحرب وتقنياتها ومناوراتها وعن تصرفات القادة العسكريين في وظائفهم ومهامهم وفي تنظيمهم للمعارك وخطواتها وكيفية تطبيقها.. ومع مرور الزمن توسع اهتمام منظري الفكر الإستراتيجي ليشمل إلى الشأن العسكري مجالات متعددة اخرى لها مساس بمتطلبات النمو الإقتصادي والتطور الاجتماعي والتقدم العلمي والتفوق التكنولوجي وغيرها من النشاطات.

وأمسى التفكير الإستراتيجي في عصرنا الحالي احد العلوم الإنسانية المتطورة الذي تتوسله الأمم المتقدمة بمنشأتها الصناعية ومؤسساتها الحكومية والخاصة بشكل استباقي ممنهج من اجل تطوير البلاد على مختلف الصعد. ويعتمد هذا العلم على الابتكار والتحري والتأمل والإستقراء والتفكير الإستباقي والإستنتاج وغيرها من المناهج.

ثانياً، خصائص التفكير الإستراتيجي:

التفكير الإستراتيجي ليس ترفاً فكرياً أو نوعاً من التنجيم بل هو نشاط إبداعي ومسار فكري تخطيطي شمولي متعدد الرؤى والأبعاد ينطلق من دراسة الواقع بكل أبعاده ومظاهره ويرسم رؤى وأهداف مستقبلية ويضع برامج وخطط عملية تساعد على الانتقال إلى المستقبل المنشود. فالتفكير الإستراتيجي يؤدي إلى التخطيط السليم لأن عملية التخطيط هي عملية لاحقة للتفكير الاستراتيجي الناضج ولا يمكن ان يكون هناك تخطيط استراتيجي دون ان يكون هناك تفكير سابق لما نريد ان نخطط أي ان الفكرة هي التي تذهب الى صياغة الخطة وليس الخطة هي التي تولد الفكرة.

وبإختصار يمكن القول إن التفكير الإستراتيجي هو مسار فكري تخطيطي يستبق الأحداث وينطلق من استقراء الماضي واستكناه الحاضر ليرسم معالم المستقبل. ويمكن التحدث عن خصائص عديدة يمتاز بها التفكير الإستراتيجي، نذكر منها التمتع برؤية ذات أبعاد شمولية، صناعة الغايات العليا والواضحة والإلتزام بها، الإستشراف والنظرة البعيدة في اتجاه المستقبل، الواقعية، التفاؤلية، التراكم المعرفي والقدرة على التحليل والتشخيص والخلق والإبداع في الإدراك الإستراتيجي والتخطيط والتأثير في مجرى الأحداث وغيرها من الخصائص.

أنطون سعاده:

نطرح الآن السؤال التالي: هل كان أنطون سعاده رجل الفكر المعروف بتفكيره الفلسفي والمنهجي والذي قدّم منظومة شاملة من الأفكار والأراء العميقة في ‏شتى ميادين الفكر والفلسفة والأدب والعلم والفنون  والذي اختارته إرادة الأمة لينطق بلسانها وليعبِّرَ عن مكنونات افكارها وطموحاتها وليقود نهضتها الجديدة وليسير بها على طريق الجهاد والبطولة صعوداً إلى الرقي والمجد.. هل كان هذا الرجل- القائد صاحب تفكير إستراتيجي؟ للإجابة على هذا السؤال سنعتمد بعض خصائص التفكير الإستراتيجي التي يمتاز بها عادة القادة الإستراتيجيون.. سنعتمدها كمعايير نستخرج على أساسها إجابتنا من فكر سعاده لنرى بعض ملامح تفكيره الإستراتيجي.

أولاً – رؤية واضحة

الرؤية هي العبارة التي تختصر طموحات المؤسسة العالية ومثالها الأعلى. فما هي الرؤية المثالية التي انطلق منها سعاده والتي شكّلت القاعدة الذهبية والخطوة الأولى في وضع الأساس الإستراتيجي لحزبه ولمشروعه الإنشائي؟. [1] يعتبر سعاده “إنّ أغراض الأمم السامية هي مطالبها العليا”[2]. ومطالب سورية العليا اختصرها بنظرته الجديدة إلى الحياة والكون والفن التي أوضحها في مجمل كتاباته وبصورة خاصة في كتابه “الصراع الفكري في الأدب السوري” والتي اعتبر ان حزبه تأسس بسببها. وإذا اردنا ان ننتقي عبارة واحدة لسعاده تختصر نظرته الأصلية الجديدة والبعيدة المدى لوجدناها في العبارة الواضحة التي تقول: “طلب الحقيقة الأساسية لحياة أجود في عالم أجمل وقيم أعلى.”[3] هذه العبارة المثالية التي تعكس طموحه الكبير وآماله السامية والتي تُشكِّلُ حلمه البعيد الذي أراد تحويله إلى حقيقة ألا وهي الوصول بأمته إلى حياة أجود.. حياة راقية تَجِدُ فيها حقيقتها الجميلة.. وتُساهم من خلالها في العمل للخير الإنساني العام وفي تقدم المجتمع الإنساني وإنقاذه من معضلاتاه الإجتماعية – الإقتصادية ومن آفاته: الحروب المدمِّرة…. هذه الرؤية المثالية الوجودية هي رؤية مشبَّعة بحبِ الحياة وبالرغبة الشديدة في تحسينها وممتلئة بنور المحبة الصافية التي إذا وُجِدتْ في نفوس شعب بكامله أوجدت في وسطه تعاوناً خالصاً وتعاطفاً جميلاً يملأُ الحياة آمالاً ونشاطاً.”[1]


 حول الأساس الإستراتيجي للحزب ورؤية سعاده المثالية راجع كتاب الباحث أسامة عجاج المهتار “إدارة الإستراتيجية في المنطمة العقائدية – أنطون سعاده نموذجاً” الصادر عن مؤسسة سعاده للثقافة، طبعة أولى، 2009.[1]

سعاده، الآثار الكاملة، الجزء الثاني ص. 330 [2]

 سعاده، الصراع الفكري في الادب السوري، ص 69[3]

ثانياً – التفكير الغائي الواضح: 

كل أعمال سعاده وكل كتاباته كانت من أجل غاية مجتمعية واضحة، عالية الأهمية وتتضمن أربعة مهمات أساسية وهي: أولاً، إحداث نهضة قومية إجتماعية في أمته السورية لإعادة حيويتها وقوتها. ثانياً، تنظيم حركة تؤدي إلى إستقلالها التام وتثبيت سيادتها. ثالثاً، إقامة نظام جديد يؤمن مصالحها ويرفع مستوى حياتها. ورابعاً، السعي لإنشاء جبهة عربية فاعلة تكون سداً ضد المطامع الأجنبية ويكون لها وزن كبير في السياسة الإنترنسيونية. هذه الغاية الجلية المتعددة الأهداف والمنبثقة من نظرة إنسانية راقية تريدُ إخراج سورية من قبر التاريخ والإرتقاء بها إلى “حياة أجود في عالم أجمل”[2] شرحها سعاده في محاضراته وفي مجمل كتاباته وخطبه وقال: “ان غرض الحزب هو توجيه حياة الأمة السورية نحو التقدم والفلاح..”[3] وأوضح “ان الغرض من إقامة نظام جديد لحياتنا هو لجعل “الحياة أرقى وافضل وأجمل”[4] “فالحياة وجمالها وخيرها وحسنها هو الغاية الأخيرة”[5] التي نسعى إليها. وللتاكيد على أهمية هذه الغاية التي تخصّنا جميعاً والتي ترمي لترقية حياتنا القومية من أساسها ومن جميع وجوهها من خلال إقامة مجتمع قومي صحيح ينهض على أساس مناقبي نبني عليه كل منشآتنا ومؤسساتنا ومشاريعنا وننطلق منه في كل أعمالنا وسياساتنا وخططنا. للتأكيد على أهمية هذه الغاية شدّدَ سعاده على القوميين الإجتماعيين في تحذير تاريخي نجده في المحاضرة الأولى من المحاضرات العشر حيث يقول:

“كلُّ عقيدة عظيمة تضع على اتباعها المهمَّة الأساسيَّة الطبيعيَّة الأولى التي هي انتصار حقيقتها وتحقيق غايتها. كلُّ ما دون ذلك باطل. وكلُّ عقيدة يصيبها الإخفاق في هذه المهمَّة تزول ويتبدَّد أتباعها.”[6]

ثالثاًً– تفكير استشرافي:

باكراً استشرف سعاده بعبقريته وبعد نظره ان أخطاراً عظيمة داهمة، وأهمها خطر الصهيونية، تهدد وجود الأمة وقال “نحن أمة واقفة، الآن، بين الموت والحياة، ومصيرها متعلق بالخطة التي نرسمها لأنفسنا والاتجاه الذي نعينه.”[7] ودعا إلى التضامن الضروري واتخاذ الإجراءات الفعالة لكي نتمكن من الدفاع عن حقوقنا كأمة حية.


 سعاده، الصراع الفكري في الادب السوري، ص 37[1]  

 أنطون سعاده في مغتربه القسري 1942- 1943 (الآثار الكاملة الجزء 11)، ص 84.[2]

أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 176.[3]

 المرجع ذاته، ص 173.[4]

 المرجع ذاته، ص 173.[5]

 المرجع ذاته، ص  [6]

 الآثار الكاملة، الجزء الثاني 1932 – 1936، ص 150.[7]

بالإضافة إلى الخطر الصهيوني فلقد نبّه سعاده في بدايات القرن السابق من أخطار عديدة من بينها الخطر التركي الزاحف إلينا من الشمال وخطر التوسع العربي المستند إلى العصبية الوهابية وخطر تنافس قوى الإستعمار على سورية الغنية بالموارد وخطر الحرب الجديدة التي سيكون وطننا مسرحاً من مسارحها يقدم لها ضحايا وقرابين وأخطار داخلية عديدة كالتجزئة الكيانية والإجتماعية وكأمراض الطائفية والعنصرية والأنانيات الفردية والتيارات الإنعزالية والإنفلاشية والمصالح الفئوية والخصوصية وغيرها ودعا سعاده إلى مواجهة هذه الأخطار بالوعي القومي وبالقوة العملية المنظمة.. فإن لم نفعل شيئاً في سبيل حريتنا.. يقول سعاده في إحدى رسائله إلى إدفيك شيبوب “فإننا ساقطون في عبودية شديدة طويلة.”[1] هذه الأخطار أصبحت اليوم حقائق تتفاقم.. فقوى العالم الإستعمارية تتسابق للسيطرة على المنطقة وثرواتها وكنوزها غير آبهة بمصالح الشعوب ومطامحها. ودولة العدو تتمادى في اغتصابها للأرض وتغيير معالمها الحضارية وتهويدها وتتباهى في جرائمها وأعمالها الإرهابية وممارساتها العدوانية والعنصرية ولا تكّفُ عن سياسة القتلِ والتدميرِ وهدمِ المنازلِ والإعتداءِ على المقدساتِ ومصادرةِ الأراضي وبناءِ المستوطنات.. وسورية اليوم تدفع الثمن حروباً أهلية ترتكب فيها المجازر الفظيعة وتُزهق الأرواح وتُدمّر البلاد وتعمُّ الويلات وتزداد حالة الأمة سوءأ وضعفاً وتفككاً مما كانت عليه في بدايات القرن الماضي والسبب هو عدم التجاوب الكافي مع دعوات سعاده وتحذيراته.

رابعاً – التفكير الواقعي:   

.سعاده كان صاحب نظرة واقعية مشدودة إلى المستقبل تعتبر ان كل جماعة تريد الإرتقاء “لا بد لأفرادها من فهم الواقع الإجتماعي وظروفه وطبيعة العلاقات الناتجه عنه”[2]. لذلك نظر سعاده في واقع مجتمعه دارساً ومحللاً بموضوعية وعلمية تركيبته ومشكلاته وعلاقاته الداخلية والخارجية وحالاته الصحية والمرضية ومستنبطاً أسباب الويل والمآسي والأمراض وكل ظواهر التخلف والتمزق والضعف والتبعية والانحطاط التي يعاني منها شعبه.. وبالإضافة إلى معرفة الواقع الإجتماعي وحقائقه وظواهره، غاص سعاده في تاريخ الأمة السياسي والإجتماعي والثقافي الطويل وراح يستقرأ ما يتضمن هذا التاريخ الغني من إنجازات وبطولات وإرث صراعي عظيم ومن مظاهر ثقافية وعمرانية ومآثر إبداعية تظهر تفوق النفسية السورية الأصلية وعظمتها. ونتيجة لفهمه العميق لتاريخ سورية المجيد ولحقائق واقعها الإجتماعي والسياسي الذي غاب عنه الوجدان القومي لخلوه من المنظمات القومية والسياسية قرر سعاده القيام بمشروع إنقاذي تخطيطي إستراتيجي ينهض بالأمة ويغيِّر مجرى التاريخ، فأسس الحزب السوري القومي الإجتماعي كمشروع نهضوي وكفكرة وحركة تتناولان حياة الأمة السورية بأسرها.


 إدفييك شيبوب، رسائل حب، ص. 139. [1]

 أنطون سعاده، نشوء الأمم، طبعة 1976، ص 14.[2]

خامساً – تفكير كلي منظم:

ان فكر سعاده الإستراتيجي وحزبه السوري القومي الإجتماعي يتمحوران حول قضية قومية كلية هي قضية الأمة السورية والوطن السوري. ففي شرحه في المحاضرة الثالثة يحدّد سعاده قضية حزبه بأنها: “قضية كلية أساسية، دائمة. إنها قضية حياة المجتمع واستمرار حياته وتقدمها نحو الأفضل والأجمل.”[1] وفي المحاضرة الثانية يقول: “فالأمور التي نعني بها نحن ليست جزئيات بل كليات تتعلق بحياة الأمة في أساسها، بجوهر الحياة واتجاه الحياة الأسمى والأكمل والأفضل..”[2] وفي معرض شرحه لغاية الحزب يؤكد سعاده ان هذه الغاية “تشمل جميع قضايا المجتمع القومي، الإجتماعية والإقتصادية والسياسية والروحية والمناقبية وأغراض الحياة الكبرى.”[3] والحق يقال ان قواعد الفكر التي نشأت عليها النهضة القومية الإجتماعية تشكل بمجملها نظاماً فكرياً فلسفياً متناسقاً ومتكاملاً. هذا النظام الفكري لا بل هذا التفكير الكلي المنظم عبَّرَ عنه سعاده في معرض شرحه لمفهوم النظام الذي عرَّفه بأنه “لا يعني الترتيبات الشكلية الخارجية، بل هو نظام الفكر والنهج، ثم نظام الأشكال التي تحقق الفكر والنهج.”[4]

سادساً- التفكير العملي:

كان سعاده من دعاة التفكير العملي الحقيقي الذي يؤدي إلى الإصلاح الشامل في شؤون حياتنا القومية.. هناك مسائل في حياتنا الإجتماعية، يقول سعاده، “يجب علينا ان نواجهها بجرأة وثقة بالنفس،.. لا ان نهرب منها مقتدين بالنعامة التي تزج رأسها في الرمل متى أدركها الصياد ظانة انها إذا لم تره لم يراها”.[5] ومن اجل ان نبتدىء في العمل الإصلاحي الكبير لتنقية حياتنا القومية من الأدران النفسية والصدأ العقلي، فأول ما يجب ان نبدأ به “هو ان نحوّل التفكير النظري الذي لا يحقق شيئاً بذاته إلى تفكير عملي يدفعنا إلى العمل على تحقيق ما نؤمن به ونعتقد بصلاحه.”[6] ويشّدد سعاده على وجوب: “اعتمادنا على التفكير العملي لأن العصر الذي نعيش فيه عصر عمل وتحقيق مطالب عليا.”[7]

سابعاً- تفكير إبداعي مستقل وفي الحديث عن سعاده فلا أعتقد ان أحداً يخالفني الرأي بأن سعاده كان شخصاً مبدعاً ومتفوقاً لا بل رجلاً عبقرياً وقائداً فذاً وقد تجلَّتْ مظاهرُ العبقريّةِ والإبداع في فكره الثاقب وفي مؤهلاتِهِ التأسيسية والتنظيمية والقياديّةِ الفريدةِ وفي زعامتِهِ الأصليّةِ المنبثقةِ من صميمِ عظمةِ الأمّةِ السوريّةِ ومنْ نتاجِ نفسيّتِها الجميلة…


 المرجع ذاته، ص 51.[1]

 المرجع ذاته، ص 39.[2]

 المرجع ذاته، ص 177. [3]

 المرجع ذاته، ص 42.[4]

أنطون سعاده، الآثار الكاملة – الجزء الثاني، ص 18.[5]

 المرجع ذاته، ص 18.[6]

[7] أنطون سعاده، الآثار الكاملة – الجزء الثاني، ص 18.

وتجلَّتْ عبقريته أيضاً في كتاباته وفي إنتاجه الغزير وفي بروزه كموسوعة جليلة في الفكر ‏والثقافة وعلم الإجتماع وفي لغات العالم الحضاري. لقد ترك سعاده للأمة تراثاً فكرياً ضخماً، تراثاً يجذب الأجيال والدارسين ‏والباحثين الأكاديميين ويقدم طريقة جديدة راقية في التفكير ألا وهي طريقة التفكير الإبداعي المرتكز على الإستقلال الروحي. يقول سعاده “ان الحزب السوري القومي الإجتماعي نشأ بتفكير الإبداع السوري المستقل..”[1] ويؤكد بأن هذا التفكير الذي شكّلَ إنقلاباً فكرياً عظيماً وسط شعبنا يعكس نفسيتنا السورية الأصلية التي تتمتع بكل مؤهلات الوعي الصحيح والإدراك الشامل لشؤون الحياة والكون والفن والتي “تقدر في ذاتها على المعرفة” و”تمييز القصد وتصور اسمى صور الجمال في الحياة.”[2] وعلى أساس هذا التفكير الإبداعي المستقل دعا سعاده أبناء شعبه لإشادة تمدن جديد أفضل من التمدن القديم الذي وضع قواعده أجدادنا الأولون  وقال:”يجب على الأمم الراقية ان تتشبه بنا او تنسج على طرازنا القومي الإجتماعي.”[3]

ثامناً – تفكير تفاؤلي إنساني:

سعاده كان صاحب تفكير تفاؤلي وإنساني يؤمن بقدرات الإنسان وطاقاته الفعلية على اختراق عالم المجهول واكتشاف الحقائق ويحثُّ أبناء شعبه للتحرر من أوهام الضعف والخنوع والتسليم للأمر المفعول وبتحمل مسؤولياتهم في تحرير سورية بأكملها وفي صناعة المستقبل المشرق لأن فيهم “قوة لو فعلت لغيرت وجه التاريخ.”[4] وركَّزَ سعاده على عنصر الشباب وعلى إطلاق عناصر القوة القومية وتشجيع المواهب الفكرية والإهتمام الدقيق بنتاجها والعمل على تصويبها كما دعا أبناء أمته للإعتزاز بقوميتهم ولإعتناق رسالة الإيمان بالأمة السورية وحب الوطن السوري والعمل بإخلاص من أجلهما. وحرص سعاده على بناء الإنسان الجديد المسؤول والمتسلح بالمعرفة الفاضلة والمناقب السامية لحمل رسالة النهضة وبناء المجتمع الجديد لأن المناقب، بالنسبة إليه، هي شيء أساسي جداً في الحياة فإذا  لم نتمتع بأخلاقية متينة فيها ‏صلابة العزيمة وشدة الإيمان وقوة الإرادة فلا يمكننا أن نحقق‏ غايتنا النبيلة ولن نحصد إلا التشويش والإخفاق وخيبة الأمل. من ‏هنا قوله “إن الأخلاق هي في صميم كل نظام يمكن أن يكتب له ‏أن يبقى.”[5]

وسعاده كان متفائلاً بالنجاح ودعا القوميين الإجتماعيين إلى أنْ يثقوا بأنفسِهم وقضيتهم وقال: “اننا لو شئنا ان نفر من النجاح لما وجدنا لنا مفراً منه.”[6] لقد مشى سعاده في الحق معلّماً وعبّدَ طريق الإيمان والثقة والحزم وصدق العزيمة بأعماله وكان حريصاً على بعث الأمل واليقين والفضائل القومية في النفوس، فضائل الحب والوفاء والتضحية والبطولة والإستقامة


 انطون سعاده، في مغتربه القسري 1942، الآثار الكاملة الجزء 10، ص 29.[1]

 المحاضرات العشر، طبعة 1976، ص 109.[2]

 الآثار الكاملة 10، ص 28.[3]

 أنطون سعاده، الآثار الكاملة الجزء الثالث (1937)، بيروت 1978، ص 54.[4]

أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص. 177.[5]

 المرجع ذاته، ص 54.[6]

والصدق والصراحة والإخلاص وكلها فضائل وقيم تعزز وحدة المجتمع وتساهم في رقي الإنسان وسعادته. وكان شديد الإيمان بأمته المعلِّمة والهادية للأمم وفاخر بما أعطَتهُ هذهِ الأمةُ للعالمِ من شرائع وعلومٍ ورسالاتٍ ومعارفَ ومن عظماءٍ خالدينَ وفلاسفةٍ ومفكرينَ وقوّادٍ ومحاربينَ وقالَ “أنَّ في النفسِ السوريّةِ كلَّ علمٍ وكلَّ فلسفةٍ وكلَّ فنٍّ في العالمِ”.[1]

تاسعاً– تفكير إرادي، صراعي:

من أهم عناصر الإستراتيجية في الفكر القومي الإجتماعي هو عنصر الصراع  لأن الحياة صراع ومن أبى الصراع رفضته الحرية. فحركة سعاده هي ليست حركة تبشيرية بل حركة هجومية لا تهدأ، حركة صراع ليس بمنته وقتال دائم من أجل تحقيق غاية واضحة وعقيدة تعني وجود الأمة السورية. يقول سعاده: “لو لم نكن حركة صراع لما كنا حركة على الإطلاق..”[2] ويضيف، “نحن نصارع دائماً في سبيل تحقيق غايتنا وكلما تراكمت علينا الصعاب تجددت قوانا وسحقت ما اعترضنا من صعاب”.[3] هذا هي تربيتنا في صفوف النهضة القومية وهذا هو إيماننا سلوكاً وأفعالاً وليس مجرد ترديد كلمات. وبهذا الإيمان نحن ما نحن.. نبحث عن القتال ومستعدون للصراع في كل دقيقة. يقول سعاده: “إننا نحن القوميين الإجتماعيين قد وضعنا في هذا الصراع كل سلامتنا.. كل مصالحنا، كل شيء عندنا في الحياة لأننا لا نجد الحياة خليقة بأن نحياها إلا إذا كانت حياة حرية وحياة عز”[4]

ولقد احتقر سعاده الذينَ تخلّوْا عن طريقِ الحرّيّةِ والصراعِ واختارُوْا طريقَ العبوديّةِ والعيشَ الذليلَ وقالَ: “ويلٌ للمستسلمينَ الذينَ يرفضونَ الصراعَ فيرفضونَ الحريةَ وينالونَ العبوديةَ التي يستحقونَ”.[5] وسعاده رفض الاتكاليّةَ والقدريّةَ والتخاذلَ والاستسلامَ وقالَ باتجاه جديد في التفكير يعتمد على موهبةِ العقلِ المُبدعِ والشرعِ الأعلى والأساسيِّ، العقلِ الإرادي الفاعل في الوجود الذي يتأمّلُ ويُدركُ ويُميّزُ الخيرَ عنْ الشرِّ ويخطّطُ للمستقبلِ ويعيّنُ الأهدافَ ولا يرضَى عن الصراعِ في سبيلِ الحياةِ الحرّةِ الكريمةِ بديلاً. هذا التفكير الجديد لا يعكس اتجاهاً نظرياً بل تفكيراً عملياًً، أخلاقياً، ساعياً إلى تغيير الواقع وتحقيق وجود أفضل، تفكيراً يعكس نفسيةٌ صراعيّةٌ جديدةٌ محبَّةٌ للعمل والإنتاج وتواقةٌ إلى الحرية ولا تقبل بغير العز والإنتصار موقعاً لها في الحياة. والحق نقول ان هذه النفسيةُ الصراعيةُ الواثقةُ من نفسها والمعتمدة على ذاتها لتحقيق أهدافها.. هذه النفسيةُ تُؤسِسُ لها وتغذيها المبادىءِ القوميّةِ الاجتماعيّةِ التي تشكّلُ فكرًا جديدًا لا بل خطة إجتماعية لصورة الأمة في المستقبل. لذلكَ يقولُ سعاده: إنَّ “العقليّةَ الأخلاقيّةَ الجديدةَ التي


 المرجع ذاته، ص 108.[1]

 سعاده في اول آذار (1956) – خطاب أول آذار عام 1949، ص 99.[2]

 المرجع ذاته، ص 99.[3]

 من خطاب الزعيم في جزين في 10/10/1948.[4]

المحاضرات العشر، ص 168. [5]

نؤسسُها لحياتِنا بمبادئِنا هي أثمنُ ما يقدّمُهُ الحزبُ السوريُّ القوميُّ الاجتماعيُّ للأمّةِ، لمقاصدِها ولأعمالِها ولاتجاهِها”.[1]

الإستراتيجية القومية الإجتماعية:

الهدف الإستراتيجي الذي وضعه سعاده يتلخص بغاية حزبه الواضحة كما ذكرنا أعلاه. ولتحقيق هذه الغاية وضع سعاده خطته الإستراتيجية الواضحة وراح يعمل على تنفيذها بعزم وتصميم وإيمان وإرادة جبّارة لا تلين وبجهد إداري وتنظيمي وسياسي وبمواجهة شرِسة مع الخصوم السياسيين والطائفيين وقوى الرجعيَّة المتلبِّسة بلباس الوطنيَّة ومع النفعيين المنافقين والخونة والمنحرفين وأعداء الأمة الإستعماريين.. راح يعمل على تنفيذها إنشاءً ونقداً وشرحاً وإرشاداً وتثقيفاً وتدريباً للمسؤولين وبعدم تهاون مع الفساد والفاسدين وبإعتماد برامج وخطط سياسية فنية بعيدة النظر ونهج هجومي واضح لا يهادن ولا يساير ونهج عملي لا يتجاهل الأمر الواقع حين معالجة القضايا السياسية ولا يخرج عن ثوابت العقيدة وغايتها. هذه الخطة الإستراتيجية تقوم على العناصر التالية:

أولاً: بناء المجتمع القومي الجديد المتماسك القوي بإعتماده نهجاً نهضوياً، أخلاقياً، واضحاً يسعى من خلاله تطهير المجتمع من أمراضه وتقاليده البالية وأحقاده الطائفية وأوهامه العنصرية وعقائده المهترئة وإظهار شخصيته القومية وحقيقته الإجتماعية وإيقاظ فكرة الأمة وبناء النفوس بناءً جديداً في العقيدة الصالحة والمناقب الجديدة التي تضمن توحيد الشعور والاتجاه والولاء القومي وتؤسس حياة جديدة للأمة وتسير بها إلى مراقي العز والخير والتقدم والفلاح. هذا النهج الإصلاحي الحقيقي الذي يعتمد الوعي القومي ونشر الثقافة القومية الإجتماعية يرمي إلى إصلاح العلةِ في أهلِها وتوحيد اتجاه الأمة توحيداً ثابتاً راسخاً بالقضاء على المنازعات الطائفية ووضع العصبية القومية موضع العصبيات الدينية والعشائرية وبتوضيح حقيقة الأمة الأثنية والجغرافية المشوشة وإحلال مصلحتها القومية فوق كل المصالح الجزئية وإطلاق حيويتها ودفعها في طريق الخلق والتفوق والإبداع. ثانياً: إنشاء المؤسسات القومية الصالحة لتجديد حياة الأمة ولبناء دولتها القومية الديمقراطية العصرية التي ترعى مصالح الشعب الحيوية وتنهض بأوضاعه وتوفِّرُ له رغد العيش وهناء الحياة. والمؤسسات القومية الجديدة ألتي هي أعظم أعمال سعاده بعد تأسيس القضية القومية والتي تحفظ وحدة الاتجاه ووحدة العمل هي، أولاً، مؤسسات متنوعة (من سياسية وإقتصادية وإجتماعية وثقافية وفنية وغيرها..) تفعل إدارة وسياسة واقتصاداً وحرباً لتحقيق أهداف الحزب. وثانياً، هي مؤسسات متكاملة وموحَّدة في مسؤولياتها تجاه قضيتها


 المرجع ذاته، ص 178.[1]

ومشدودة دوماً إلى غاية الحزب ونظرته. وثالثاً، هي مؤسسات عصرية متطورة تعتمد العقلنة والعلم والتخطيط الدقيق ويجب ان تُسَيِّرُها إدارات صالحة وكفوءة ومخلصة وشفافة، متحلية بالقيم القومية ومقيَّدة بالضوابط الأخلاقية والقواعد الدستورية وملتزمة بالعقيدة وغايتها.

ثالثاً: بناء نظام إقتصادي إجتماعي راق قاعدته وحدة المجتمع القومي وغايته خير الأمة ورفاهيتها، نظام يرسي الإقتصاد القومي على أساس العمل والإنتاج لتتحول الأمة كلها إلى أمة العاملين المبدعين المنتجين علماً وفكراً وصناعة وغلالا. بهذا النظام الجديد الذي يعتمد الخطط التطويرية والعدالة الإجتماعية في عملية الإنتاج ستقف الأمة على قدميها وسيتحول مجتمعنا بأكمله إلى مجتمع منتج متفوّق ومحصّن من الإحتياج والتبعية وسيمتلك أرضية الإنطلاق وقواعد التقدم والتطور وقدرة الصراع بين الأمم.

رابعاً: بناء قوة الأمة المادية والنفسية بما فيها قوة الفكر والعلم والمعرفة لأن ما يحمي الأمة ومصالحها ضد أية مخاطر هو عناصر قوتها وحسن استخدام قياداتها لهذه العناصر. وفي هذا المجال يقول سعاده: “ان الحق القومي لا يكون حقاً في معترك الأمم إلا بمقدار ما يدعمه من قوة الأمة. فالقوة هي القول الفصل في إثبات الحق القومي او إنكاره.”[1] ومن أهم مظاهر القوة المادية هي القوة العسكرية والقوة الإقتصادية والمنعة الجغرافية الإستراتيجية والعنصر البشري الفاعل الذي هو في النهاية صاحب الدور الأساسي في قوة الأمة وتفوقها. وفي مجال القوة العسكرية دعا سعاده لإعداد جيش قوي للدفاع عن الأمة والوطن وقال ان “مبدأ الأمة المسلحة هو المبدأ الوحيد الذي يجب ان تتمسك به كل أمة لا تريد الإضمحلال.”[2] وفي مجال القوة الإقتصادية، فلقد دعا سعاده إلى استخدام موارد الأمة ومن بينها البترول كسلاح إستراتيجي في معركة المصير القومي وفي الحفاظ على حقوق الأمة وسيادتها على نفسها.

يبقى ان نشير إلى ان صفة الديمقراطية ستلازم الدولة القومية الإجتماعية المنبثقة من إرادة المجتمع الشاعر بوجوده وكيانه لأنه لا قومية حقيقية بدون ديمقراطية لذلك يقول سعاده: “الدولة الديمقراطية هي دولة قومية حتماً.” وهذه الديمقراطية، التى عناها سعاده، هي ليست ديمقراطية تمثيلية تعكس أوضاع المجتمع الراهنة وتمثِّلُ فئاته الإقطاعية والرأسمالية والمذهبية بل هي ديمقراطية تعبيرية، أي انها طريقة جديدة في التفكير، او كما يسميها سعاده بضاعة جديدة يقدمها لأمته السورية وللبشرية جمعاء، ووظيفتها التعبير عن إرادة الأمة المجتمعة في وحدة حياة ووحدة مصير وغرضها الإنشاء الجديد والتأسيس الجديد لحياة الأمة ومطالبها وللنهوض بها إلى المكان اللائق بها تحت الشمس.


 المحاضرات العشر، ص 155.[1]

 الآثار الكاملة، الجزء الثالث 1937، ص 140.[2]

خلاصة:

هذه هي خطة سعاده الإستراتيجية التي حدّدت الغاية الواضحة والتي رسمت الطريق لتحقيق تلك الغاية .. هذه هي خطة سعاده النظامية الدقيقة التي يفعل فيها العقل الإرادي والتي تبدأ من تغيير الإنسان لتحوِّل الأفراد إلى نفوس مؤمنة وإلى جيش من العشاق لقضية حياة الأمة وتقدمها. والحق نقول انه لا أمل لنا بمواجهة المشروع الصهيوني العدواني وتوابعه التنظيمية من أهل الوهابية والسلفية والداعشية والتخلف والتكفير ولا رجاء لنا ببقاء مجتمعنا وقيامته إلا بإعتماد الخطة النظامية الإستراتيجية التى رسمها سعاده والتي تصنع الإنسان الجديد المُجهّز بالمناقب الجديدة والمستعد لأن يتحمل مسؤولياته في البذل والعطاء والبطولة والإستشهاد من أجل صيانة حياة الأمة الجديدة في العز والشرف والحرية والتقدم والفلاح.

*رئيس الندوة الثقافية المركزية

د. ادمون ملحم