لم يكن اندلاع الحرب في غزه يمثل مفاجأة واحدة فحسب وانما مجموعة من المفاجآت في حرب تسارعت احداثها بقدر لم يكن العقل والضمير يستطيعان ملاحقته لا بل يلهثان في محاولة متابعة احداثها وتفاصيلها مما جعلها تستحق القاب مثل الطوفان والزلزال، ولكن الحرب ومعاركها وان كانت تقودها غزة بشجاعة وأدراك و اقتدار وهي ماضية في استنزاف الاحتلال، الا ان معارك خلفية تدور في الضفة الغربية وبشكل بدا بطيئا لكنه اخذ بالتسارع مؤخرا.
بموجب الاتفاق المرحلي الذي عقدته بعض قيادة منظمة التحرير مع دولة الاحتلال بكامل مؤسساتها في الثالث عشر من ايلول 1993 والذي اطلق عليه اسم اتفاق اوسلو تم تشكيل السلطة الفلسطينية بموجبه وتحددت مهامها بالنص الصريح والواضح بانه يقتصر على ادارة السكان والحفاظ على الامن (التنسيق الامني مع المخابرات الإسرائيلية) وسرعان ما لحق بذلك الاتفاق ما تم توقيعه في باريس عام 74 من ملاحق اقتصادية لتنظيم العلاقة بين الاقتصاد (الاسرائيلي) و بين اقتصاد المناطق التي تديرها السلطة الفلسطينية وبما يجعل من الاقتصاد الفلسطيني ملحقا وهامشا للاقتصاد (الاسرائيلي) تشرف به دوله الاحتلال على الاستيراد والتصدير وجباية اموال الضرائب (المقاصة) وتخصم منها عموله لقاء خدماتها الإجبارية ثم تحيل ما تبقى الى خزينة السلطة.
ادعت قيادة منظمة التحرير في حينه انه لم يكن بالإمكان افضل مما كان، وان هذه الاتفاقيات على اذعانها و ردأتها، الا انها ستكون مرحلة قصيرة وخطوة اضطرارية باتجاه التحول من سلطة حكم ذاتي محدود الى دولة مستقلة عاصمتها القدس وذات اقتصاد مزدهر يحقق حالة من الرفاه تجعل من حياة الفلسطينيين جميلة وبما يشابه او يتفوق وفق بعض المبالغات على سنغافورة ودبي وهونج كونج، الامر الذي حصل في النهاية عكسه تماما، و في حين بذلت السلطة الفلسطينية اقصى جهودها للحفاظ على الامن والايفاء بالتزاماتها مع الاحتلال لدرجة جعلت من التنسيق بين اجهزتها الأمنية ومخابرات الاحتلال على درجة تصل الى حد القداسة ولكنها لم تستطع ادارة السكان ولا قيادة عجلة التنمية الاقتصادية واستبدلت على ارض الواقع سنغافورة بالصومال.
هكذا انتهى الحال بالاقتصاد الفلسطيني كما في وظيفة السلطة بالمعنى الوطني من الادعاء بالسعي نحو الرفاه والتقدم الى ما نحن عليه اليوم وهو حالة ريعية تعتمد على المساعدات والهبات الخارجية من الدول المانحة، وهي على الدوام مساعدات ذات اشتراطات سياسية تدعم التحول الفلسطيني من الثورة ومشروع التحرير الى مشروع التنسيق الامني والالحاق الاقتصادي الذي نراه اليوم، فهذا الدعم لم يكن مقدر له ان يستمر الى الابد، ثم اعتمدت السلطة الفلسطينية على قروض البنك الدولي وعلى البنوك المحلية كل ذلك لدعم فاتورة الرواتب، ثم السعي لدى دوله الاحتلال لإصدار تصاريح عمل للشباب الفلسطيني للعمل في مشاريع (إسرائيلية) في مجالات الزراعة والبناء والفندقة والسياحة والصناعات التحويلية والذين يبلغ عددهم وفقا لتقديرات نقابه عمال فلسطين من 175,000 الى 200,000 عامل يتقاضون في السنه قرابه النصف مليار دولار ومع ذلك كانت تبلغ نسبة البطالة الى 24.1% حتى مطلع الحرب (السابع في تشرين اول) اما بعد الحرب فقد بلغ عدد العاطلين عن العمل الى 540000 عامل لا مصدر رزق لهم.
في جانب آخر يصر وزير المالية (الاسرائيلي) سمو ترتش على عدم تحويل عائدات المقاصة لخزينة السلطة، مما اضطر السلطة الفلسطينية لعدم دفع الرواتب كاملة وفي هذا الشهر تم دفع نصف الراتب لموظفيها العسكريين والمدنيين، بذلك أصبح مصدري الدخل الرئيسيين وهما العمل لدى الاحتلال والوظائف الرسمية معطلين مما ادخل المجتمع في حالة عوز شديد.
هذا الواقع الاقتصادي الصعب الذي وصل في بعض الاحيان حد الحاجة للقوت مترافقا مع عجز السلطة عن الحصول على اموال عربية كما ظهر في مؤتمر القمة العربية الاخير في المنامة، لا بد له من ان ينعكس على الحالة الامنية التي ستنفجر في وجه الاحتلال، والاحتلال بدوره يصعد في الضفة في اقتحاماته واغتيالاته وتدميره للبنى التحتية من شوارع ومدارس وشبكات الماء والكهرباء والصرف الصحي تنفيذا لمشروعه المعلن بضم اربعة اخماس الضفة الغربية وتهجير سكانها الى الاردن.
هذه معالم المعركة الخلفية والتي ننتظر اشتعالها بشكل أكثر ضراوة وتتطلب الاستعداد لها.
جنين- فلسطين المحتلة