لماذا تعليق الديموقراطية في الكويت الآن؟

تمر الكويت هذه الأيام بأزمة سياسية هي أزمة نظام في العمق. هذا البلد الذي عرف نوعا من الممارسة الديموقراطية منذ ما قبل الاستقلال، دخل في مرحلة مراجعة لتجربته التي وان لم تكن ديموقراطية كاملة الاوصاف الا انها كانت تجربة مميزة قياسا بأنظمة دول الخليج المجاورة وحتى في معظم الانظمة العربية في القرن الماضي.
عرفت الكويت اول بوادر الحياة الديموقراطية عام 1938 عندما انتخب اول مجلس تشريعي بمبادرة من التجار الذين كانوا يسيطرون على قرار البلاد تحت أمرة الامراء من آل الصباح وقبل الاستقلال الذي أعلن عام 1961.وكفل الدستور الكويتي الذي أقر بعد الاستقلال بعام قيام نظام ديموقراطي بإنشاء مجلس للامة نص الدستور على صلاحيات له أهمها مراقبة الحكومة ومساءلتها والموافقة على تسمية وليد العهد المناطة بالأمير على ان لا يعارضها مجلس الامة.
النظام السياسي الكويتي هو أشبه بنظام رئاسي يتمتع فيه الرئيس(الامير) بسلطات واسعة تفوق بكثير سلطات الرئيس في الانظمة الرئاسية العروفة كالنظام الرئاسي الاميركي او الفرنسي، فهو اضافة الى كونه رأس السلطة المقرر يحتفظ بحق تسمية رئيس الوزراء الذي هو من العائلة الحاكمة أيضا وضمنا تعيين الوزراء وبحق تعيين ولي العهد وبحق حل البرلمان المنتخب. وتكاد سلطة البرلمان تقتصر على المراقبة والممانعة فيما منحه الدستور من سلطات، وهو ما يفسر، تمسك النواب بممارسة دورهم بما أتاحه لهم الدستور.
كان الكويتيون يتباهون بنظامهم “الديموقراطي” وسط مجموعة من الانظمة الوراثية التي تتصرف فيها العائلات الحاكمة منفردة بكل مناحي الحياة في بلدانها. في السعودية والامارات وقطر والبحرين وعمان حيث الملوك والامراء والمشايخ يحكمون منفردين ويقررون في كل شاردة وواردة.
لكن الكويت التي تفردت من بين جيرانها بهذا النظام الهجين بين الديموقراطية والوراثة العائلية ما عاشت هذه التجربة من دون اشكالات وتوترات ناجمة عن تناقض بنيوي في توليفتها الديموقراطية بين الوراثة والانتخاب. صحيح ان الامارة الغنية كانت واحة متقدمة في محيطها تجلت مظاهرها في جو الحرية الاعلامية والثقافية التي انتجت صحفا ومجلات متقدمة كتجربة صحيفة “القبس” ومجلة “العربي” وترجمات مهمة جدا لمجلات معرفية عالمية ومنشورات أدبية وسياسية كانت تفتقر اليها دول الخليج عموما، لكن الصحيح أيضا ان هذه التجربة شابها الكثير من المطبات وربما لم تكن مثار اعجاب الدول المجاورة، لا سيما ان هذه الامارة اختطت دائما خطا سياسيا متمايزا عن جاراتها وغالبا ما كان هذا الدور توافقيا وغير متشنج ازاء العلاقات العربية- العربية ومع المحيط الاقليمي.
لقد عرفت الكويت مع الطفرة النفطية تحولا اقتصاديا واجتماعيا كبيرا، اذ اتاح النفط تقوية مركز الدولة والامارة على حساب طبقة التجار التي كانت مسيطرة على الحياة العامة للبلاد، وهو ما ادى الى تعزيز سلطة الامير الذي أمسك ثروة البلاد بين يديه وأيدي أسرته، وصحيح انه لم تكن له سلطة الملوك والمشايخ المجاورين، لكنه كان يمتلك السلة المعنوية المستمدة من تاريخ سيطرة عائلته على الامارة منذ أواسط القرن الثامن عشر.
اتاح النفط للدولة الوليدة امكانات مالية هائلة تفوق حاجة اهلها فتسارعت عمليات العمران بكثافة واضحت الكويت قبلة الشركات العالمية واستقطبت ملايين الكادرات المهنية والعمال من بلدان العالم العربي التي كانت سبقتها في التعلم والعمران ومن دول فقيرة تبدأ من الهند وباكستان الى كوريا ودول الغرب. أصبح الكويتي أينما حل هو عنوان الثراء. الكويتي هو مرادف الغني، كيف لا وباطن الأرض يخرج ذهبا أسود لعدد محدود جدا من السكان.
لكن هذا الثراء الذي وفر حياة من الرخاء والانفتاح على العالم لم يفعل فعلا كبيرا في المنظومة الاجتماعية فبقيت القبلية والعشائرية والطائفية تلعب دورا محددا في الحياة السياسية للبلاد. لم يرتق المجتمع الكويتي الثري الى حدود المواطنة الحقيقية القائمة على الدستور خارج إطار القبيلة والعشيرة والمنطقة والطائفة، وهو ما انعكس في انتخابات مجلس الامة التي تنتج نوابا يملكون عقليات القبيلة والعشيرة والطائفة بما تحمله من ارث ثقافي واجتماعي يعود الى عصور غابرة ومن تجلياته اقصاء المرأة في الانتخابات الاخيرة في نيسان الماضي. وقد تفاقم الامر مع ما سمي الصحوة الاسلامية الت دفعت الاسلاميين الى قلب الحياة السياسية في بلد تعرف تركيبته المذهبية تعايش السنة والشيعة.
ان اعلان امير الكويت الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح حل مجلس الامة يوم 10 ايار بعد أكثر من شهر بقليل على انتخابه بعد تعذر اقلاع الحكومة ورفض الاسم المقترح لولاية العهد من جانب الامير ليس وليد ساعته، فالتجربة الديموقراطية في الكويت تمر بمخاض عسير، وهذه ليست المرة الاولى التي يحل فيها الامير مجلس الامة، هي حالة متكررة خصوصا في السنوات العشر الأخيرة.
هناك من يرى ان قرار الامير هو ضرب للديموقراطية ونزعة الى الاستئثار بالحكم على الطريقة الخليجية، وهناك من يرى ان التجربة الحالية استنفدت اغراضها ولا بد من اعادة النظر فيها، وهو ما أعلنه الامير عندما قال ان تعليق العمل بالدستور هو لمدة اقصاها أربع سنوات من أجل اعادة تقييم التجربة. وهناك من يذهب الى حد نقض التجربة كليا والدعوة الى حكم عائلي يشبه حكم الدول المجاورة مستشهدين بالتطور الاقتصادي الكبير وحتى الاجتماعي اللذين تشهدهما تلك الدول في ظل أنظمة لا تعيش اشكالات المشاركة في الحكم ووجود معارضة.
يقول هؤلاء ان المال متوافر وما على المواطن الا ان يأخذ نصيبه ويعيش مرتاحا من السياسة وهمومها ومناكفاتها ويترك الامر لأولي الامر.
ما ذا سيحدث بعد أربع سنوات أو أقل ؟الامر متوقف على حكام الكويت من الآن وصاعدا، وعلى معرفة ما اذا كان تعليق الديموقراطية مجرد حالة موقتة أم مسار جديد متعلق بالداخل الكويتي او برغبات خارجية.