مع نهاية العام 2019، شهد لبنان اندلاع أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخه الحديث، ليدخل الاقتصاد المحلي في نفق الركود التضخّمي الحادّ، ترافق مع انكماشٍ حادّ في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بحدود 65%، أي من 51 مليار دولار في العام 2019 إلى حوالي 18 مليار دولار اليوم، وانهيار غير مسبوق في سعر صرف الليرة اللبنانية بحدود 60 ضعف، من 1,500 ليرة للدولار إلى حوالي 90 ألف ليرة اليوم، وارتفاع ملحوظ في مؤشر أسعار المستهلكين بحدود 55 ضعف منذ نهاية العام 2019 وحتى تاريخه. عليه، من البديهي أن بتبادَر إلى أذهان المحلّلين والمراقبين الكثير من التساؤلات حول مدى قدرة لبنان على تحقيق التعافي الاقتصادي المرجو، وبالتالي ما هي المتطلّبات الأساسية لوضع البلاد على سكة النهوض الاقتصادي الذي طال انتظاره.
في الواقع، إن فرص النهوض في لبنان لا تزال متاحة، ولكنها تتطلّب بطبيعة الحال مساراً إصلاحياً شاقاً وطويلاً، بدءاً بانتخاب رئيس للجمهورية يليه تشكيل حكومة تفعّل عجلة الإصلاحات الهيكلية الضرورية الكفيلة بتعزيز عامل الثقة بشكل عام، مع ما يمثّل ذلك من حجر أساس لاستعادة إنتاجية المؤسسات اللبنانية من جهة، كما ويتطلّب انحساراً تدريجياً للعوامل الإقليمية المعاكسة من جهة أخرى، كي يتحقّق الانفراج الاقتصادي المنشود الذي يحتاج باختصار إلى توافر عدد من العناصر المترابطة لضمان نجاحه.
من هنا، يتعيّن مواجهة عدد من الملفات الاقتصادية بشكل فوري وسريع مع طرح برنامج إنقاذ وطني وصياغة خطة اقتصادية شاملة للمدى المتوسط، مع رؤية مشتركة للخسائر المالية المحققة والمرتقبة وتوزيعاً عادلاً ومنصفاً بين جميع العملاء الاقتصاديين مع إجراءات إصلاحية جريئة، انطلاقاً من احتياطيات أجنبية بحدود 10 مليار دولار وذهب بقيمة 21 مليار دولار ومساعدات مالية يمكن أن تتأتّى كلّما تعززت الثقة في الواقع اللبناني، على أن تبدأ الإجراءات الإصلاحية على ثلاث محاور أساسية:
أولاً، إصلاح القطاع المالي، لاسيما المصرفي وإعادة هيكلته، نظراً إلى أن وجود قطاع مالي ومصرفي موثوق به يعدّ مفتاحاً أساسياً لإعادة ربط لبنان مع الأسواق المالية العالمية. كما وأن وجود قطاع مصرفي أصغر وأمتن من شأنه أن يعزّز الانتاجية وفعالية التكلفة. إضافةً إلى ذلك، فإن سلامة القطاع المصرفي لها تأثير على المخاطر السيادية وبالتالي على أي تصنيف سيادي محتمل للبنان. وبالتالي فإن إصلاح النظام المصرفي من شأنه أن يحصّن الإطار الماكرو اقتصادي والمالي للبلاد. من هنا، جاءت خطة التعافي التي تعتزم إعادة هيكلة القطاع المصرفي عبر تقييم الخسائر وبنية الودائع لكل بنك وذلك لأكبر 14 بنكاً، وعبر ضخ رأس مال جديد في البنوك القابلة للاستمرار. أما على مستوى الإطار التنظيمي، فالمطلوب أولاً وقبل كل شيء توحيد إجراءات ضبط حركة الأموال بموجب مشروع قانون كابيتال كونترول من أجل ضمان معاملة عادلة ومنصفة لجميع الزبائن والحدّ من المخاطر القانونية إزاء القطاع المصرفي، في موازاة ورشة إصلاحات على صعيد عدد من التشريعات المصرفية التي تعدّ أمراً ضرورياً، ناهيك عن ضرورة أن يكون لدى السلطات العامة والنظام المالي رؤية مشتركة للخسائر المالية المحققة والتي تقارب 60 مليار دولار. بعد ذلك، ينبغي أن يتحوّل التركيز إلى المطالبة باسترداد جزء من تلك الخسائر وتوزيع الباقي على كافة العملاء الاقتصاديين بطريقة عادلة ومنصفة.
في الواقع، ما حصل مؤخراً لناحية إصدار ميزانيات مصرفية بسعر صرف يوازي سعر صرف السوق الموازية، يُعدّ تطوراً هاماً ومنعطفاً أساسياً على المستوى المالي في لبنان وتحديداً المصرفي. ولكن لا بدّ من الإشارة هنا إلى أن إصدار ميزانيات مصرفية بسعر صرف موحّد، أي 89,500 ليرة للدولار، يشكّل تحدياً أساسياً للقطاع المصرفي، إذ أنه سيعكس الصورة الحقيقية والواقعية لوضعية المصارف على صعيد ماليتها وحجم رساميلها وسيولتها وملاءتها بشكل عام، لاسيما وأنه سيترافق بطبيعة الحال مع تراجع كبير في قيمة رساميل المصارف وفي نسب ملاءتها، عملياً، لتتبخّر دفترياً، بعدما فقدتها نظرياً منذ اندلاع الأزمة في نهاية العام 2020. مع الإشارة إلى أن التأثير السلبي سيطال نسبة كفاية رأس المال لدى المصارف، أي النسبة التي تحدّد مدى قدرة المصرف على تحمّل المخاطر الجمّة مثل مخاطر الائتمان، والمخاطر التشغيلية وغيرها، والتي من شأنها أن تحمي المصرف والمودعين والمقرضين وبالتالي الحفاظ على الثقة في النظام المصرفي. ما سيتحدّد بالتالي من هي المصارف القادرة على إعادة الرسملة والاستمرار ومن هي المصارف التي لن تقوى على الاستمرار والخروج من السوق.
ثانياً، تصحيح الاختلالات القائمة على صعيد المالية العامة والتي تعتبر من أبرز عناصر الهشاشة الاقتصادية في لبنان، وذلك من خلال عدد من التدابير التي يجب أن تتمحور بشكل خاص حول تقشف جدّي في الإنفاق العام من خلال تخفيض النفقات غير الثابتة (أي النفقات خارج الأجور والرواتب والتحويلات لمؤسسة كهرباء لبنان)، وذلك بالتوازي مع تعزيز تعبئة الموارد من خلال تحسين الجباية عبر مكافحة التهرب الضريبي، هذا بالإضافة إلى إصلاح قطاع الكهرباء عبر بناء محطات الطاقة اللازمة وتقليص الخسائر التقنية وغير التقنية. إذ لا يمكن للبنان أن يحافظ على استقراره النقدي والمالي مع نسبة مديونية ضمن أعلى ثلاث نسب في العالم، لاسيما وأن النموذج القائم حول تمويل العجز المالي العام عن طريق نمو الودائع لم يعد قابلاً للاستدامة. أضف إلى ذلك، هنالك مجال لخصخصة بعض المؤسسات العامة عن طريق عقود البناء والتشغيل والنقل، مثل قطاع الاتصالات وطيران الشرق الأوسط وكازينو لبنان بما يدرّ بضع مليارات من الدولارات على الخزينة، ما من شأنه أن يؤدي إلى اقتطاع جزئي في مخزون الدين العام بالعملات الأجنبية. كما وينبغي إقرار موازنات عامة تتضمّن خطة ورؤية اقتصادية واضحة، لا تعتمد فقط على الزيادات الضريبية، وتخصّص بطبيعة الحال نفقات استثمارية أكبر في سبيل تحفيز النمو الخاص الذي يكمن في تحفيز الاستثمارات الخاصة المرتبط بتحسن بيئة الأعمال، من خلال تخفيض التكاليف التشغيلية وتحسين سهولة مزاولة الأعمال، والانتقال من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد المنتج.
ثالثاً، تصحيح الاختلالات على صعيد القطاع الخارجي لتحقيق توازن ضروري في ميزان المدفوعات من خلال تحفيز التدفقات المالية الوافدة وخفض الواردات وتعزيز الصادرات. المطلوب هنا قوننة حركة الرساميل الخارجية من خلال إصدار قانون تشريعي يضبط حركة الرساميل ويتضمن وضع قائمة بالتحويلات الطارئة مع تحديد سقوف عليها، فرض قيود على استيراد السلع التي لها بدائل محلية الصنع، تسهيل تمويل استيراد المواد الأولية للإنتاج المحلي، بالإضافة إلى فرض قيود على التحويلات الخارجية للعمال الأجانب العاملين في لبنان. في موازاة ذلك، من الضروري اتخاذ تدابير لتعزيز الإنتاج المحلي على حساب الواردات من خلال تحفيز السلع الموجهة نحو التصدير والسلع البديلة للاستيراد للحدّ من العجز التجاري القائم. في هذا السياق، من المهم تحسين وتوسيع نطاق البرامج القائمة لدعم الصادرات، واستحداث برامج تحفيزية جديدة لتشجيع الإنتاج المحلي، تنطوي على رفعٍ للرسوم الجمركية لحماية المنتجات المحلية، تـأمين حوافز ضريبية للمنتجين المحليين، دعم أكبر قدر ممكن من عملية استيراد المواد الأولية، ناهيك عن ترويج الإنتاج المحلي في الخارج مع التركيز على المنتجات ذات القيمة المضافة العالية.
في الختام، لا بدّ من الإشارة إلى أن ما تحقق حتى الساعة من خطوات يبقى غير كافٍ بطبيعة الحال، وقد اقتصرت هذه الخطوات فقط على إقرار موازنة عامة وإقرار قانون السرية المصرفية والمباشرة بالتدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان. في حين أن ما حصل مؤخراً لناحية إصدار ميزانيات مصرفية بسعر صرف يوازي سعر صرف السوق الموازية، هو تطوّر مهم على طريق توحيد أسعار الصرف المتعددة التي كانت من الأسباب الرئيسية في الفوضى العارمة في سوق القطع والتي ساهمت بشكل كبير في انهيار سعر صرف العملة المحلية منذ العام 2019.
عليه، كل التوقعات تشير إلى أن سيناريو المباشرة في تطبيق الاصلاحات الاقتصادية اليوم من شأنه أن يساهم في خروج لبنان من فخ الركود التضخمي في غضون ثلاث سنوات، أي بحلول العام 2027، على أقل تقدير، إذ من الممكن أن يصل الناتج المحلي الإجمالي إلى حوالي 28 مليار في العام 2027، وذلك من حوالي 18 مليار دولار في العام 2023، مع تسجيل نمو اقتصادي إيجابي بحدود 3.5% في المتوسط بين عامي 2025 و2027. في حين أن نسبة التضخم التي سجلت متوسط قدره 221% في العام 2023، من المتوقع أن تبلغ 12% في العام 2027 وفق هذا السيناريو الإيجابي. أما نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي والتي تجاوزت نسبة 280% في العام 2022، فمن المتوقع أن تصل إلى حدود 80% من الناتج بحلول العام 2027، في حين أن استقرار سعر صرف الليرة مقابل الدولار سيكون أكثر استدامة في ظلّ هذا السيناريو، دون تغييرات تُذكر.