فِكرَةٌ وَحَرَكة، وظاهِرَة “المُقارَباتِ الإعفائية”  الجديدة

    كأنّما فصلُ الخريفِ في أمتي كانَ يحتاجُ إلى مزيدٍ منَ الإرتباكِ والتضارُبِ وتقلُّبِ المزاجِ، حتى زادهُ الواقعُ ضباباً في ظنونِ المُتردّدينَ، وبرودةً في أفئدةِ العاطفيّينَ الذينَ تأخذهم الأمنياتِ إلى عوالمِ القعودِ والتأمُّل.

    تِسعونَ عاماً والأسئلةُ تَكثُرُ، والأجوبةُ تتشَعَّبُ، والإتجاهُ يضيعُ أحياناً ويُفقَدُ أحياناً أُخرى داخلَ غَمامةٍ منَ الّلا وُضوح.

    أمّا وأنَّ تشرينُ قَد عادَ ثانيةً، وما زلنا على قيدِ الوَعيِ، فهل نَقبل نحنُ الذينَ أوتينا منذ تسعينَ عاماً بالحقائقِ الرّاهنة أن نؤخذ بالأوهامِ والأضاليل، أو أن نروِّجَ لها تحتَ سِتارِ الإحتفالِ؟ فَنُطَوِّعُ الُّلغاتَ ونُستَنفِذُ قُدرتها على الإبهارِ، ونُبَرِّجُ وُجوهَ الكلِماتِ بطلاءٍ منَ الذّكاءِ لنهرُبَ مِنَ المواجهةَ؟  حتماً لا نقبل.

    وهل هناكَ مَن هو أكثَرُ منّا جرأةً على مصارحَةِ الذات، أو أقسى مِنّا صبراً على آلامِ الجِراحِ إذا ما وُضِعَت عليها أصابِعُ الحقيقة !

فلنتواجَه إذاً، مِمّ نَخاف؟

    في كلِّ موسِمٍ تشرينيٍّ مِن كُلِّ عامٍ، تعلو أصواتٌ مُربِكَةٌ ومُربَكَةٌ في آنْ، طارِحَةً مقارَباتٍ لطالما رغِبتُ بتسميتها “مقارباتٍ إعفائية”، إذ يسعى مُطلِقو هذه المقاربات، أو المنظرينَ لها أو الباحثينَ فيها غالباً إلى التمحيص والإستطراد والفكفكة والتركيب، بُغيةَ تجميع الأسباب الكافية التي تكفل إعفائهم مِن مشقّة المحاولة.

    وعادةً ما تنطلقُ المقاربات هذه مِن مُقدّماتٍ عقائديةٍ منمقةٍ ومتماسكة، تُظهِرُ بشكلٍ واضحٍ أن مَن كانَ خلفها لم يترك من سراديبِ الأفكارِ سِرداباً إلا ومكَثَ فيهِ زمناً ليسَ بقليل، فيوحي للقارئ أو المُستمع أن ما يقدّمه من مقاربةٍ هو خُلاصةُ أبحاثٍ مُكثّفةٍ لا تحتاجُ ولا تحتملُ أي إضافات.

    ولكي تكون الصورة أكثر وضوحاً ومُباشرةً، فإن هذه المقاربات الإعفائية ترتكزُ على مبدأ تَرقيَةِ الفكرةِ إلى حدودٍ أبعد من أن يطالها الواقع، وفي الوقتِ عينِهِ تنكيسِ الحركةِ إلى دركٍ أسفلَ من أن تطالهُ الأيدي، وتُستخدَمُ فيها مصطلحاتٌ “إعفائيةٌ” هي الأُخرى ومنها على سبيل المثال: ” نحنُ نؤمنُ بالفكر ولكن الحزب غير موجود”، ” أنا أؤمن بفكر أنطون سعاده لكني لستُ في الحزب القومي”، ” هذا الفكر العظيم أكبر من أن ينضوي في حزب” … والقائمة تطول.

    مِن هنا نستطيعُ أن نبدأ في تحليلِ هذه الظاهرة، ظاهرة “المقاربات الإعفائية” ومواجهتها بالحجةِ والدليل بدل الإغفالِ عنها والإيهامِ بعدمِ وُجودها، تعالوا إذاً نُبحِرُ مَعَ أولئكَ الذينَ ما انفَكّوا ينعونَ الحزبَ ويستبيحونَ مجالِسِنا ومسامعِنا بمناصرَةِ الفكرِ وصاحِبِ الفِكر عَلَّنا نجِدُ ما يُفَسِّرُ استِبسالهُم في القُعود.

    بعدَ تسعينَ عاماً على تأسيسِ الحِزب، وما يزيدُ عن مئةَ عامٍ على انبِلاجِ الفِكرِ، يُجمِعُ القاصي والدّاني على أنَّ سعاده المُفَكِّر الفيلسوف، قَد ترَكَ فرادَةً فكريَّةً فلسفيَّةً جديدةً تكادُ تكونُ لصيقةً بإسمِهِ في مجالِسِ العارِفين، وهي “المدرحية”، فحتّى مَن آثَرَ عدَمَ الإقترابِ منَ النهضةِ القوميةِ على مدى تِسعَةَ عقودٍ يستطيع التّوأمَةَ بينَ سعاده والمدرحيّة.

    وإذا سلّمنا جدلاً بأنَّ الفلسفةَ المدرحيّةَ تختصِرُ إنجازاتِ أنطون سعاده الفكريّة، وبما أننا قرَّرنا التشَيُّعَ للفِكرِ دونَ سواه، فإنَّنا إذاً قرَّرنا بشكلٍ تلقائي منطقيٍّ إراديّ مناصرَةَ مدرحيَّةَ أنطون سعاده، قد يَحلو للبعض مِن هُواة الغَوص أنْ يُلبِسَ المدرحيَّةَ ثوباً مِنَ التعقيد، فيخالُ لكَ أنها أحجيَةٌ تحتاجُ في فهمِها إلى جهودٍ غيرَ عاديّة، ووقتٍ أطول مِن متوسّطِ عُمرِ الإنسان، بيدَ أنَّهُ في الحقيقة، هذا اليُنبوعِ الرَّبيعيّ شديدِ التَدفُّقِ كثيرِ العُذوبَةِ والصَّفاء، المُسَمّى سَعاده، هو أبعَدُ ما يكونُ عن التَّعقيدِ والسفسَطة،

فإذا اضطُرِرتُم لِشَرحِ مَدرَحِيَّتِهِ، قولوا إنها فِكرَةٌ وحَرَكَة تتناوَلانِ حَياةَ أُمَّةٍ بأسرِها.

فِكرَةٌ وَحَرَكةٌ.. لا فِكرَةٌ وَقُعود

فِكرَةٌ لا تَكونُ بِغَيرِ حَرَكَةٍ سوى مَلهاةً لِماضِغي الكَلام،

فِكرَةٌ لا تُفْصَلُ عَنِ الحَرَكَةِ إلّا إذا قرَّرنا إعدامَها بِاليُتْمِ،

فِكرَةٌ لا تُحَقِّقُها مُعَلَّقاتُ النَّعيِ على كَعبَةِ الإستسلام.

    تُريدونَ مُناصَرَةَ الفِكْرِ ! .. هذا هو الفِكرُ، فإمّا أن تَنفُضوا عَنكُمُ غُبارَ السِّنينِ وصَدَأ السَّراديبِ المُظلِمَةِ، وتَمتَشِقوا أكُفَّكُم وأرجُلُكُم وصدورُكُم وتُصارِعوا في ميادينِ الفِكرَةِ لِتَسود، وإمّا أن تنسِجوا مِنها غَطاءً بِطولِ نَعْشٍ… وتنتظِروا

وائل ملاعب