سعاده والفنون الجميلة – الجزء الثاني

لم يكتف سعاده بهذا الدرس الخاص في شرح نظريته في الموسيقى، بل دعا إلى تنمية الروح الموسيقية القومية القوية التي تحفّز الشباب للعمل، وطلب المثل العليا، فكتب ردا على إلغاء مخصصات نادي الموسيقى، مقالة نقدية تحت عنوان: “ألسنا بحاجة إلى الموسيقى في لبنان؟”، طالب فيها المعنيين بالعمل على تنمية الروح الموسيقية في البلاد وتنشّيط النوادي، وبعث الهمم بموسيقى قومية قويّة تحفّز الشباب إلى العمل، وتجعلهم أهلا للحياة الكبرى، للحياة الجميلة الحرّة. (10) .
وفي هذا السياق النقدي لجاهلي دور الموسيقى في تنشئة نفوس الأمة، انتقد سعاده الشاعر شفيق المعلوف لمشابهته الشعر بالموسيقى، لإنّ تلك المشابهة لم ترفع الشعر، ولا الموسيقى إلى المنزلة السامية التي لهما في النفس التي سمت بشعورها وإدراكها. مؤكدا: أنّ الموسيقى الراقية تحمل النفس على تأملات فكرية وثورات روحية فضلاً عن مختلف العواطف الفردية التي هي من شؤون الحياة البيولوجية أو الجنسية. ولكن هذه الموسيقى الراقية هي وليدة عصر راقٍ أو نتاج مخيلة مبدعة، قدرت بذاتها أن تتصور عالماً من الأفكار والتأملات والشعور في أمواج من الأنغام والألحان تحتاج بدورها إلى عصر يفهمها.
وها هو سعاده يسخر من أحد الصحفيين الذين غادروا إحدى المسارح لأنّه عاف سماع إحدى سيمفونيات بيتهوفن، لأنّ لأطرب فيها ولا شجن (11).
ثــانــيــا: عظماء الموسيقى
كان اهتمام سعاده بالموسيقى واضحا، بالرغم من مشاغله المتعدّدة، فهو لم يكتف فقط بوضع نظريته في الموسيقى العصرية، بل كتب عدّة مقالات تحدث فيها عن عظماء الموسيقى في العالم، ومن بينهم الثلاثة الكبار: بيتهوفن (الذي بلغ في الفن الموسيقي حدّ الألوهية)، ويوسف هيدن (الموسيقي الكبير)، وواغنر (الشاعر النادر والفيلسوف الكبير والموسيقي الفذّ). يقول أستاذ الموسيقى المخضرم ها غوب أرسلانيان: “كان الزعيم أنطون سعاده يعشق الموسيقى، كان صوته نصف أوبرالي. في أيامه كانت الموسيقى في البلاد العربية تتوزّع بين المصرية والتركية. تميّز سعاده بأذنه الموسيقية، وقد حيّر جميع المؤلفين والموسيقيين حوله. دائما كان يغني في البيت، وهو صاحب ذوق موسيقي كبير، وهذا واضح من اختياره أجمل المعزوفات، التي كان يغنيها، وقد عشق من الموسيقى والغناء الإيطالية والإسبانية والفرنسية والألمانية والكلاسيكية، خصوصا السمفونية الخامسة والتاسعة لـ بيتهوفن …ولو أنّ الزعيم درس الموسيقى، ومن دون مبالغة، لكان من أهم مؤلفي الموسيقى العالمية، في القرن العشرين. ويروي ها غوب: أنّ سعاده قال لـ زكي ناصيف: لقد نشّزت مرتين يا زكي وذلك تعليقا على سماعه أغنية: Antonio Vargas Heredia

ثــالــثــا – فـــن الـــغـــنـــاء
انتقد سعاده الفهم الخاطئ لــ “الغناء” عند غالبية السوريين الذي اقتصر عندهم على معاني الكسل والبطالة والجهل والطيش، ومن مظاهره فساد الأخلاق. ورأى أنّ معنى الغناء الفني هو في التعبير عن شعور سامٍ وعواطف متأثرة وتأملات روحية ترفع الأنفس إلى عالم الأثير الدقيق حيث تصفو الأنفس مما بها من الشوائب الأرضية ويغمرها الحب النقي. لم يكن سعاده كاتبا عاديا في الفنون الجميلة كم ذكرنا ومنها فن الغناء، بل كان ذا ثقافة فنية عالية جدا، مردّها إلى معرفته بلغات عدّة، فهو لا يكتب، متلاعن الفن الروسي أو الألماني أو الإيطالي، إلا كونه يُتقن لغات هذه الشعوب وثقافاتها ونشاطاتها الفنية على مختلف الصعد. إلى جانب مشاركته الشخصية في حضور المناسبات الفنية، ومتابعتها نقدا وتوجيها واستخلاص العبر منها، لتوعية أبناء أمته، وحثهم على المساهمة الفعلية في نهضة ثقافتهم الفنية، لتماشي الثقافة الفنية الإنسانية الراقية، وتشقّ الطريق عبر النهضة القومية الاجتماعية نحو أرقى المثل الإنسانية في الحقّ والخير والجمال، وتلكم هي رسالة الأمة السورية الجديدة نحو العالم.
أهم ما كتبه سعاده عن “فن الغناء”،

1 – ديمتري سمير نوف (الصوت النادر المثيل)
اعتبر سعاده صوت سمير نوف نادر المثيل ومواهبه الصوتية غنية جدا، وحرارة لهجته تكسب ما ينشده قوّة حياتية تهزّ النفوس. (12).

2- المغني بولس جوهر (رفع الأنفس إلى مقام الآلهة)

أشاد سعاده بالمغني بولس جوهر الذي برز إلى عالم الغناء الفني وفيه التعبير عن شعور سامٍ وعواطف متأثرة وتأملات روحية ترفع الأنفس إلى عالم الأثير الدقيق حيث تصفو مما بها من الشوائب الأرضية ويغمرها الحب النقي وهذا هو نوع الغناء الذي كان قبلة أنظار مشاهير مؤلفي الألحان والأغاني أمثال دانتي وفاغنر ومسكاني وليونكفاللو وغيرهم فرفعوه إلى مرتبة سامية جداً بتآليفهم وحازوا على ذلك بالخلود.

وتمنى سعاده: أن يكون من وراء تعريف السوريين بفن الغناء الراقي ما يفتح لنا عهداً جديداً، لا لترك ما عندنا بالمرة والذهاب وراء الفن الغربي، بل للاستفادة من هذا وترقية فنّنا الغنائي الخاص حتى نبلغ المرتبة التي بلغها أرباب عائدة وكفالاريا روستيكانا وتاييس وطوسكا وبالياتشي وسواهم.

مؤكدا أنّ في سورية اليوم نهضة جديدة في عالم الموسيقى والغناء تبشر بمستقبل باهر. ولمّا كانت الموسيقى والغناء من العوامل الكبيرة في تطور حياة الأمم الاجتماعية والروحية، فحريّ بالسوريين أن ينشطوا إلى مناصرة النهضة المذكورة ويعملوا في سبيل ترقية هذين الفنّيين الساميين.

3- فدوى قربان (نابغة الغناء الموسيقي الراقي السورية فدوى قربان.)

كان بروز فدوى قربان في فلك الفن في الأرجنتين كبروز البدر التام في الليل الصافي الأديم. وكان غناؤها انتصاراً باهراً لمواهب الشعب السوري النفسية …فالفنانة التي سارت باسم قوميتها السورية في العالم وكسبت لفنها ومواهب شعبها كل هذا الفخر هي فنانة كبيرة جديرة بكل تقدير واحترام. (13)
في هذا السياق يذكر أنّ سعادة علّق على نجاح الرفيقين محمد صعيدي في الموسيقى ومحمد البكار في الغناء، بقوله:” لو وضع تحت تصرفي مليون ليرة، لشيّدت أفخم بناء للأوبرا، ليس في بلادنا، فقط بل في الشرق قاطبة”.

الهوامش
سعاده: جريدة النهضة، العدد101، تاريخ 22شباط 1938 .
سعاده: الأعمال الكاملة، م6، ص333 .
. راجع، ما يتبع.
سعاده: جريدة: الزوبعة”، ع51، تاريخ 1/9/1942. سعاده: الأعمال الكاملة، م 6، ص 230
.