انشودة حياة من ذاكرة الوطن

ثمانية وأربعون عاماً، ولا زالَ صَدرِي يَعْبَقُ بِنشيدِ سوريــه!
… وإلى كلِّ قومِيٍّ اجتماعي لا زالَ مُصِرّاً على ممارسةِ البُطولَةِ!!
…أنَا الجَنوبِيُّ ، ابنُ العُرقوبِ النبيل وباكرا لفّني الزَّمنُ بعباءَةِ اليتم لكن سوريةَ وحُبَّها سُرعانَ ما استردَّتني منْ طفولَتِي “اليتيمة “فمحت من روحيَ رَوائِحَ الوجعِ، ورَتَّبتَ حياتي على إيقاعِهَا ، فَكَبِرَت في قلبِي، وكَبِرْتُ مَعَها!!
…منذُ السَّابعةِ منْ عُمرِي تَمرَّدتُ على قانونِ القبيلِةِ، وعاشرتُ “رِجالَ فلسطينَ الفدائيين”، المُنتشرينَ حولَ قريتي، وسرعانَ ما منَحتني فلسطينُ سَيلاً منَ القُبلِ العاريةِ، فأكلتُ معها نِصفَ الرَّغيفِ، وأبقيتُ النِّصفَ الآخرَ، حالماً بالعودةِ إلى جَليِلِنا الجليلِ، فنكسرَ ما بقي معنا من خُبزٍ، كما كانَ يَفعلُ جدّي مع الرُّعيانِ، في عِشرينياتِ القرنِ الماضي…
…وحينَ كنتُ في الرَّابعةِ عشرةَ (في الصَّفِ التَّاسِعِ) ، ورّطتني مُعلّمتي تورّطاً عذباً وجميلا بأنطون سعاده،الّذي دفعنِي بِشغفٍ إلى فكِّ رموزِ القصيدةِ…فانصرفتُ منْ حينِها، عنْ حبِّ رفيقتي في الصَّفِ، إلى حُبِّ “سوريه”، وانغمستُ أكثر وأكثر في ابتكارِ النَّبيذِ الّذي يليقُ بِحُبِها، وفي كلِّ شيءٍ يُناسِبُ هذا الحُبَّ!
…وسرعانَ ما اشتعلتْ نيرانُ 1975 وذكراها التي تصادف مثل هذه الأيام ،س فانتقلتُ منْ “صَفّي” إلى صَفِّ آخــرَ، ولا زِلتُ فيه…ومن أواخِرِ نيسانَ ذاكَ العامِ إلى اليومِ، والبُندُقيّةُ تنغرزُ في كتِفي ، فتؤلِمني، ولَكِنَّها تُعوّضُني عن ألمٍ آخرَ…
…صِرتُ “مُراهِقاً” منْ نوعٍ آخرَ، أخافُ على بلادي، الّتي يموتُ فيها كلُّ شيءٍ إلاَّ الحُزنِ…تأبّطتُ أنطون سعاده في قلبي، وبينَ نيسان75و76قَرأتُ كلَّ كُتَبَه الّتي لامست يدي، من المحاضراتِ العشرِ، وما قبلَها، إلى آخرِ لحظاتِ الإعدامِ ـ الشهادة قرأت على ضَفّةِ المتاريسِ، وهديرِ الرَّصاصِ، ولاحَقني في كلِّ الخنادِقِ، المحفورةِ في الرّملِ، قرأتُ على رُفقائي، في ليالٍ “بهيميّةٍ” ، في الضَّبابِ، والبردِ، والجوعِ،وأنسنتُ الصّنوبرَ في رأسِ المتنِ وظهور الشّوير،وكثيراً ما كَمنَ ليَ الموتُ البارِدُ في وحشةِ الغاباتِ، وعلى أطرافِ المتارِيسِ والإقتحامات،وأحياناً تبلّلتْ قميصِي بالدّمِ، ولكِنِّي نجوتُ…(يُضحِكني الأمرُ)! كانَ” سعاده”، زاديَ، وزوّادتي، أراهُ دائِماً ولا يراني…
…انتميتُ إلى صفوفِ النَّهضةِ في نيسانَ عام 76، ومُنذُ تِلكَ اللَّحظةِ ازدادَ خوفي في أنْ يَسِبِقني الفاجرُ إلى بلادي…البِلادُ الّتي يَقتلُ فيها المَحروسُ الحارِسَ! ومنذُ ذلكَ الوقتِ وإلى اليوم وأنا أقولُ سوريه، في لُغتي، ودمي، ولي فيها عِشقٌ دائمٌ، وإليها جُوعٌ دائم ومعها وقفتُ بِلساني، وفِعلي، لم أدخلَ زواريبَ ملعونةٍ، ولم أتلون ولم أُبدِّلَ ثوبيَ، ولن أبدِّلَهُ!
…أنا ابنُ الحزبِ السُّوري القومي الاجتماعي، انتقلت من حُضنِ أمّي إلى حُضنِ بلادي، (كما يقولُ سعاده) ،وأنا ربيبُ غُبارِ المَعاركِ من ضهورِ الشّوير إلى الخيام، وعلى مساحةِ جُغرافيّةِ هذا الوطن وكثر من رُفقائي ماتوا ،أو استشهدوا، وأتركُ لمن سيقرأني أنْ يُذكرني بما فاتني في ذاكرتي البليدةِ…
…أنا ابنُ سوريه، ابنُ هذهِ البريّةِ الأليفة لم ألطِّخْ يدي يوماً بالفحمِ، وما شَعرتُ معها بالنُّعاسِ أبَدَاً…ومهما تجرّعتُ منَ الألمِ والصَّبرِ، ستبقى بلادي، الفاكهةُ الأشهى والأطيب والأنقى ، الّتي تغمرُ مائدةَ قلبي، ولقد أورثتُ حُبَّها لأولادي…