نهاية دراسته المميزة (صهر الوعي أو في إعادة تعريف التعذيب) يسجّل الشهيد وليد دقة حادثة جرت في سجن جلبوع في العام 2006 بعد أن تسلّم جدعون عزرا وزارة الأمن الداخلي وقام بزيارة للسجن، حينها اعلن مدير السجن يعقوب حنوت أمام الوزير، وعلى مسمع من الأسرى ” إطمئن…. عليك أن تكون واثقاً بأنني سأجعلهم (الأسرى) يرفعون العلم الإسرائيلي وينشدون التكفا”
مرة تلو المرة، يتحلى المستعمرون، كما سجل تاريخ الشعوب، وتجربة شعبنا منهم، وكما يتسجل منذ 7 أوكتوبر حتى اليوم، بميزة يمتازون بها وهي ملكة الغباء. جنرالات ومحلّلون واستراتيجيّون وباحثون وسياسيون برواتب خيالية وتسهيلات لوجستية، توفر لهم بيئة مثلى للبحث والدراسة، فيصدرون الأحكام ويسجّلون التوقعات، ويقترحون الخطوات والقرارات، ولا يملّون عن العمل وفق قاعدة منهجية قوامها (إستخلاص العبر)، فيصدعون رؤوسنا بعبرهم المستخلصة، والنتيجة صفر. كل أحكامهم تسقط في ميدان مقاومة الشعوب، وكل توقعاتهم عن انهزام المقاومين تذروها رياح الصمود والمقاومة، واقتراحاتهم بخطوات محددة وقرارات معينة للقضاء على روح المقاومة، تفوح منها رائحة لا الفشل فحسب، بل والغباء.
هذه هي النتيجة النهائية لتمنيات مدير جلبوع المنفوش الريش بقدراته أمام وزيره في سجن جلبوع. لم يكن وليد ليقلل من أهمية الآلية التي تعتمدها مديرية السجون في خلق وقائع تسعى من خلالها لصهر وعي الأسير، بحيث يتحقق للمدير( حلمه) في إنشاد الاسير لل (تكفا) الصهيوني، وتلك آلية نجح صاحب (صهر الوعي) في تحليلها.
وليد بذاته، كان أنموذجاً صارخاً على فشل تلك الآلية، فصاحب (صهر الوعي)، لم ينصهر وعيه، رغم 38 عاماً في الأسر، شاهد فيها ما شاهد، وعانى خلالها ما عانى، فكان بحق كما وصفه خالد عودة الله على صفحات الفيس، (شهيداً وشاهداً). شهيداً في الأسر بلغ باستشهادة ذروة التضحية، وشاهداً ليس فقط على فاشية المجرمين الذين ظلوا يحتجزونه رغم خطورة وضعه الصحي، بل وشاهداً، على أن (صهر الوعي) يظل حلماً يراود المستعمِرين، ولنا نحن الفلسطينييون أن نستمتع برؤيته حلماً لا يتحقق، بل شاهداً على غباء المستعمِرين كالعادة.
كما (حَلَمْ) مدير جلبوع، حلمت عجوزهم الفاشية جولدا مئير عندما أعلنت يوماً توقعها/ حلمها/ أمنيتها: الكبار يموتون والصغار ينسون. أي لحظة غباء هذه غلفت ذلك الحلم/ الأمنية/ التوقع، وهي المعروف عنها قدراتها السياسية والاستراتيجية؟ ومن جديد يستمر المستعمِر في ممارسة أضغاث أحلامه حين يعلن، ومنذ ستة شهور، أن هدف حربه على غزة: تصفية حماس وإنهاء حكمها وتحرير المختطفين. النتيجة صفر، ولعل كمين خانيونس قبل ايام شاهد على حجم ذلك الحلم/ الهدف الغبي.
كان وليد مثقفاً ثورياً من طراز رفيع، في وقت ينبغي لنا الاعتراف فيه بظاهرتين سلبيتين في أوساط المثقفين، الأولى ذلك الاندلاق على إطلاق الألقاب على عواهنها، فذلك (مثقف مشتبك) وآخر (مثقف ثوري)، فيما وقائع الميدان تعرّي تلك الألقاب من حقيقتها، وتحولها لمجرد يافطات لا تعكس جوهراً. أما الظاهرة الثانية فهي تبني نفرٌ من المثقفين، وهي فئة معزولة لحسن حظ شعبنا وثقافته الوطنية، لموقف المستعمِر في تحميل الضحية والمقاومين مسؤولية جرائم المستعمِر، لا بل والطعن في شرعية المقاومة تحت حجج ومببرات أهمها حجم رد المستعمِر على المقاومة وشعبها، في دعوة صريحة، وجبانة معاَ، للإستسلام خشية الرد! هذا نفر من المثقفين مهزوم من داخله، فاستدخل الهزيمة وحولها لموقف (نظري وسياسي)، ولا أكثر بؤساً من تحويل الإنهزام لموقف نظري وسياسي، دون نسيان أن بعض هؤلاء يعتاشون من وراء ذلك الموقف وظيفة وامتيازات وتسهيلات من (أولي الأمر).
أمام هذين الصنفين من المثقفين ينتصب وليد شاهداً، كما نعته عودة الله، شاهداً أن المثقف الثوري لا يمكن صهر وعيه، بل يفهم آليات صهر الوعي لاجتراح بدائلها التي توفر له مقومات بناء وعي مقاوم، وهو ما فعله وليد في (صهر الوعي) (وحكاية سر الزيت) ( والزمن الموازي) (وسر السيف) وفي كل مقالاته، و(رسائله) لزوجته سناء ولإبنته ميلاد، رسائل قل نظيرها، كمادة توثيقية أدبية، لروح الأسير حين تجد نفسها محلقة وقد تحولت لصياغة أدبية مؤثرة.
وليد شاهداً أن ليس من السهولة بمكن (صهر وعي) الأسير، (غسل دماغه)، بحيث يتحول لمنشد لل (تكفا)، بل يصارع الموت شهوراً وسنين، ويستشهد وهو يقبض على الجمر، جمر موقفه كممثقف ثوري لا يعرف القسمة على إثنين حين تتعلق المسألة بالوطن، المقاومة من أجل الحرية، وبالكرامة الإنسانية، ومَنْ يقرأ حكاية سر الزيت ينتصب هذا الثلاثي أمام عينيه: الوطن، المقاومة من أجل الحرية، والكرامة الإنسانية.
رفيقاً قائداً نعم. مفكراً نعم. مثقفاً ثورياً نعم. صاهراً للوعي نعم. كان كل ذلك. كل ذلك عاينته حين عايشته شخصياً في الأسر. حرقة في القلب، وغصة في الحلق على رحيل وليد، ولكن ما يعزيني أنه كان، وسيظل، الشهيد الشاهد.