قراءة في مسارات الضربة الإيرانية

قراءة في مسارات الضربة الإيرانية

لا شك أن الضربة الإيرانية المحدودة على كيان العدو هي خطوة غير مسبوقة، ربما استلهمت ضربة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين بصواريخ السكود في مطلع التسعينيات، مع اختلاف الزمن والتكنولوجيا والأوضاع الجيوستراتيجية.

المواقف
وفي قراءة المواقف، ومن خلالها استخلاص بعض الوقائع يمكن استخلاص الآتي:
إيران: تقول إنها نفذت ضربة محدودة بعدد من المسيرات والصواريخ (مجموعها حوالي 200 مسيرة وصاروخ)، كرد محدود ومركز، على استهداف إسرائيل لقنصليتها في دمشق، وهو حق مكتسب بحسب القانون الدولي. وأن 50% من الصواريخ أصابت أهدافها ودمرت مركزين عسكريين مهمين، أحدهما المطار الذي استخدمته إسرائيل في عملية استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق. وأن العملية انتهت عند هذا الحد، مع التحذير بأن أي رد سيلقى عملية أكبر، ومع تحذيرات لأميركا ودول المحيط بعدم التورط بأية ضربة لإيران.
كيان العدو: يقول اعلام العدو أن الجيش الإسرائيلي استطاع بالتعاون مع حلفائه، وتحديداً قوى الجيش الأميركي المنتشرة في المنطقة بما في ذلك مدمرتين في سلاح البحرية متخصصتين باعتراض المسيرات والصواريخ، إضافة الى سلاح الجو البريطاني والفرنسي الموجود في المنطقة، من اسقاط 99% من المسيرات والصواريخ. وأن النقاط التي قال الإيراني أنه أصابها لم تصب سوى بأضرار طفيفة. وأن الرد سيكون قوياً وواضحاً. في المقابل، قال بايدن لنتنياهو أن يعتبر أنه انتصر من خلال اسقاط معظم المسيرات والصواريخ الإيرانية، وألا يرد لأن أميركا لن تشارك بأية عملية عسكرية ضد إيران. وقد طلبت إسرائيل اجتماعاً عاجلاً لمجلس الأمن، كما طلبت تصنيف الحرس الثوري الإيراني كحركة إرهابية من قبل الأمم المتحدة. فيما يبحث بايدن مع الدول السبع الكبرى موقفا دبلوماسياً منسقاً قبل اجتماع مجلس الأمن
الوقائع:
من بين عاصفة المواقف الإعلامية المتأججة، والحرب النفسية المتبادلة، يمكن استخلاص عدد من النقاط الهامة كما يلي:
1- الهجوم هو الأول من نوعه بهذا الحجم وهذا النوع من الأسلحة. وقد كان للمسيرات دور هام بإشغال منظومات الدفاع الجوي المتنوعة، وأنظمة التشويش، وكان للصواريخ المتنوعة أيضاً إشغال أنواع أخرى من الدفاعات الجوية حتى تستطيع الصواريخ المحددة من الوصول الى أهدافها. والتي يقول الإيراني أنها وصلت، فيما الإسرائيلي يقول إنها لم تصل الا بشكل محدود. فمن هذه الناحية، كان الهجوم هو اختبار للتقنيات والأسلحة والدفاعات ومنظومات التشويش والاستشعار والتوجيه. خاصة وأن إيران تبعد بين 1600-2200 كيلومتر عن فلسطين المحتلة، مما يعني أن السرعات المتنوعة للمسيرات والصواريخ المجنحة والبالستية والفرط صوتية تعطي العدو إنذارات مبكرة للتحضر بكل أنواع الدفاعات، من الطائرات الحربية له ولحلفائه، الى كافة طبقات أنظمة الدفاع الجوي. وهذه تجربة تعطي الإيراني، المتواجد من خلال حلفائه في العديد من الدول، من اليمن الى العراق والشام ولبنان، مؤشرات حول توزيع الأدوار والأسلحة في المستقبل، كي تنطلق الأسلحة البطيئة من الجغرافيا الأقرب الى الهدف، والأسلحة المتوسطة من مسافات متوسطة، والأسلحة السريعة والفرط صوتية من الأماكن البعيدة والآمنة في إيران، بحيث يكون ممكنا تنسيق هجمات “مركبة” كما سماها الإيراني البارحة، ولكن دون إعطاء ساعات طويلة للعدو كي يتهيأ عسكرياً ولوجستياً وإعلامياً وشعبياً.
2- برغم محاولات سلاح الجو الأميركي والإسرائيلي والبريطاني ضرب المسيرات والصواريخ في أجواء العراق والشام والأردن، قبل وصولها الى أجواء فلسطين المحتلة، فإن عدداً كبيراً وصل الى هذه الأجواء، وأدى الى مشاهد وإرباكات كبيرة، اشغلت نظام الدفاع الجوي بأنواعه وطبقاته المتعددة، من القبة الحديدية الى مقلاع داوود الى نظام هيتس، فيما الصواريخ الأساسية توجهت الى النقطتين العسكريتين المستهدفتين في النقب، واستطاعت إصابة الأهداف، حتى لو قال الإسرائيلي أن الاضرار كانت طفيفة. هذا اختبار أولي، يستنتج منه أن إسرائيل لوحدها غير قادرة على رد هكذا هجومات دون الاستنفار الغربي الكبير، وأن كلفة هذا الرد هي كبيرة جداً، ليس فقط نفسياً وشعبياً، حيث دوت صفارات الإنذار في أكثر من 700 موقع وطلب من المستوطنين النزول الى الملاجئ وتوقفت حركة الملاحة لخمس ساعات وانتقلت الحكومة الإسرائيلية الى مواقع محصنة تحت الأرض. بل أكثر من ذلك، قدرت مصادر أميركية بحسب صحيفة نيويورك تايمز بأن كلفة ردع المسيرات والصواريخ الإيرانية على مدى 5 ساعات، تجاوزت النصف مليار دولار أميركي. فماذا يحصل لو أن إيران أطلقت الفي مسيرة بدل المئتين، والفي صاروخ من أنواع مختلفة بدل المئة؟
3- الإيراني لم يرد من الضربة أن تؤدي الى حرب واسعة، تحرج الأميركي وبنفس الوقت تزيح التركيز عن معركة غزة، أو تحولها من حرب شعب يواجه الإبادة مع محتل قاتل مجرم، الى حرب بين دولة معتدية هي إيران ودولة بريئة معتدى عليها هي “إسرائيل”. ولكنه اعتبر أن عدم الرد على ضربة القنصلية هو ضعف له. في المقابل، نتنياهو جاءه الرد الإيراني كمخرج لتوريط الأميركي في حرب إقليمية تخرجه من تخبطه في وحول غزة، لكن بايدن كان حاسماً لجهة رفضه المشاركة في أي ضربة على إيران. واقتصار تركيزه على إجراءات دبلوماسية في مجلس الأمن، غالباً ما تلاقي فيتو مزدوج روسي صيني. ولا بد من التنويه هنا، أن ما دفع بايدن الى رفض المشاركة، هو ليس بالضرورة ما يقوله الاعلام الموالي لإسرائيل، بأن إيران نسقت الضربة بالكامل مع الاميركيين، ولكن أيضاً، تهديد بوتين بأن أي تدخل أميركي ضد إيران يعني دخول روسية الحرب الى جانب إيران، إضافة الى تهديدات إيران بضرب المواقع الأميركية في المنطقة. وفي المقابل، كانت لا تزال المسيرات الإيرانية في الأجواء العراقية عندما صرحت الممثلية الإيرانية في الأمم المتحدة أن الضربة انتهت، في إشارة واضحة على محدودية الضربة ولاعطاء الأميركي المساحة الكافية للعمل الدبلوماسي وعدم التورّط بعمليات عسكرية ضد إيران.
الحروب الحديثة الذكية
ولفهم ما حصل بشكل دقيق، لا بد من إلقاء الضوء على الأنماط الحديثة من الحروب، خاصة تلك التي تعتمد على المسيرات والتكنولوجيا والصواريخ الدقيقة والفرط صوتية. ففي مقال الأسبوع الماضي في صحيفة واشنطن بوست حول الحرب الأوكرانية، بتاريخ 5 نيسان 2024، يذكر المقال ما يلي:
بعد رفض الكونغرس الأميركي تمويل الحرب الأوكرانية بمليارات كان قد طلبها بايدن، اتجه الاهتمام الغربي الى نقل تكنولوجيا المسيرات وأجهزة اختراق الدفاعات الجوية وأجهزة التشويش الحديثة عند العدو، الى أوكرانيا. وعلى مدى الأشهر الثمانية عشر الماضية، ارتفع عدد شركات المسيرات الأوكرانية من سبعة إلى ما يقرب من 300 شركة، وتحصل هذه الشركات المحلية على المساعدة من رواد الأعمال في مجال التكنولوجيا الفائقة من مختلف أنحاء العالم.
وتعهّد زيلينسكي بأن تقوم أوكرانيا ببناء مليون مسيرة هذا العام لتكملة إمداداتها المتضائلة من الأسلحة والمدفعية من الغرب. ويقول الخبراء إنه في أي يوم، يكون لدى كل جانب ما يقارب من 3000 مسيّرة في الجو، حيث أصبح الخط الأمامي معرضًا للرماية الرقمية. (تصوروا لو قامت إيران وحلفاؤها بهجوم على فلسطين المحتلة ب 3000 مسيرة دفعة واحدة، أو 10 آلاف).
وأصبح تركيز التقنيات الحديثة اليوم، هو كيف يمكن للمسيرة أن تقوم بخداع أنظمة التشويش وتقنيات الدفاع الجوي، وسلوك طرقاً متعرجة لاختراقها والوصول الى الهدف. إنها حرب التكنولوجيا. إذا كنت لا تعرف الطريق للتهرب من الدفاع الجوي والحرب الإلكترونية، فسوف تفقد معظم أو كل مسيراتك وصواريخك.
ويقول الخبراء العسكريين والتكنولوجيين بحسب الصحيفة، أن أجهزة التشويش الإلكترونية موجودة في كل مكان في الجبهة الأوكرانية، مما يحجب نظام تحديد المواقع (GPS) والإشارات الأخرى. لكن بعض الطائرات بدون طيار تمر عبرها.
ويضيف المقال أن الداعمين للتكنولوجيا في أوكرانيا لا يقتصرون على بعض الشركات الكبرى مثل بالانتير ومايكروسوفت، بل يشملون العديد من المليارديرات الأمريكيين البارزين، ومجموعة من الشركات الأمريكية الناشئة ورجال الأعمال من جميع أنحاء أوروبا إلى أمريكا الشمالية وأستراليا. ويستخلص أنه اندماج غريب بين وادي السيليكون وحرب الخنادق.
وقد تطورت تكنولوجيا المسيرات من طائرات رباعية بسيطة يمكنها السفر بضعة أميال إلى طائرات بدون طيار كبيرة ذات أجنحة ثابتة يمكنها الوصول إلى آلاف الأميال. والخطوة التالية هي تزويد هذه الطائرات بدون طيار بخرائط افتراضية وذكاء اصطناعي حتى تتمكن من الوصول إلى أهدافها حتى من خلال عاصفة من التشويش الرقمي وأنظمة دفاع جوي متعدد الطبقات، كالتي استخدمتها إسرائيل الليلة الماضية.
وتعمل شركات التكنولوجيا العالمية (ست منها في أوكرانيا) بالفعل على إتقان تقنية الذكاء الاصطناعي هذه، وجعلها رخيصة بما يكفي لتشغيل آلاف الطائرات الذكية بدون طيار.
يقول تحالف في الأمم المتحدة يسعى إلى الحد من الأسلحة الذكية المستقلة: “هناك حاجة إلى قانون جديد بشأن الاستقلالية في أنظمة الأسلحة لإنشاء حدود بين ما هو مقبول وما هو غير مقبول”. والمقصود هنا ألا يترك قرار الاشتباك في المسيرات الذكية في يد الذكاء الاصطناعي، بل أن تبقى هذه المسيرات تدار من قبل مشغل بشري.
ويذكر المقال، أن روسيا أطلقت أكثر من 4630 مسيرة من طراز “شاهد” مصممة إيرانيًا ضد أوكرانيا، بحسب التقديرات الغربية.
وفي المقابل، يطلق الأوكرانيون موجات من المسيرات، على أمل أن يصل بعضها إلى أهدافه. في 12 مارس/آذار 2023، على سبيل المثال، قالت روسيا إن أوكرانيا هاجمت بـ 25 مسيّرة، بما في ذلك واحدة استهدفت مدينة نيجني نوفغورود، على بعد حوالي 200 ميل شرق موسكو. وفي 17 مارس/آذار، أرسلت أوكرانيا 35 طائرة بدون طيار عبر الحدود، تسببت إحداها في حريق في مصفاة في كراسنودار.
وقد حاز هذا الهجوم على اهتمام كبير من الاعلام الغربي بوصفة الأكبر والأطول. من هنا تبرز أهمية الهجوم الإيراني الذي شمل أكثر من مئة مسيرة وعدداً من الصواريخ المتنوعة، ومن مسافة أطول بكثير من الهجوم الأوكراني على كراسنودار. لذلك نقول إن هذا الهجوم الإيراني، هو في جانب رئيسي منه، استعراض قوة، واختبار تكنولوجيات وكفاءات أسلحة جديدة وبتقنيات اختراق أجهزة تشويش وإنذار مبكر، والكلف المادية لهذا النوع الجديد من الحروب الحديقة غير التقليدية.
وتجدر الإشارة أن معظم المسيرات المتوافرة حالياً في أوكرانيا والغرب، يمكنها الطيران لمسافة أقل من 500 ميل تقريبًا. وتعمل الشركات حالياً على زيادة نسخ يمكنها السفر لمسافة 1200 ميل وأكثر، وحمل متفجرات تصل زنتها الى 100 كيلوغرام. لكن المسيّرات الكبيرة عالية التكلفة.
ويخلص المقال، الى أن مفتاح الفوز في هذه الحروب الحديثة الذكية، هو انتاج مسيرات وصواريخ ذكية، منخفضة التكلفة ولكنها قوية، ويمكن انتاج كميات كبيرة منها، وتشغيلها من مخابئ محمية تحت الأرض بعيدًا عن الخطوط الأمامية، أو حتى تكون ذاتية التشغيل من خلال أنظمة الذكاء الاصطناعي.
ومن هذه الناحية، فإن المنظومة العسكرية الإيرانية قد خطت بلا شك خطوات جبارة في هذا الاتجاه. وإذا ما ترافق ذلك مع حافزية عالية للمواجهة وروح قتالية عالية، وبرامج استخبارات وإدارة المعارك متقدمة، فإن الحرب تصبح على مستوى مختلف من كل ما عرفناه حتى الآن.
ويوضح أليكس كارب، الرئيس التنفيذي لشركة Palantir الاميركية المتخصصة ببرمجيات الذكاء الاصطناعي لكافة التطبيقات: “إن قوة أنظمة الحرب الذكية والخوارزميات المتقدمة أصبحت الآن كبيرة جدًا لدرجة أنها تعادل امتلاك أسلحة نووية تكتيكية ضد خصم بأسلحة تقليدية فقط”.
من هنا، تكمن أهمية الضربة الإيرانية، من حيث النوعية والتقنيات والمسافة واستنفار عدة دول لمواجهتها، برغم محدوديتها، في أنها تثبّت إيران على مستوى إقليمي وعالمي، كقوة حربية تكنولوجية متقدمة، خاصة بعد تزويدها لروسيا بأجيال ذكية وفعالة من المسيرات التي تمتلك أعداداً هائلة منها، وتبذل جهداً مستمراً لتطويرها ورفع كفاءتها. ولا شك أن مواجهة الساعات الخمس الليلة الماضية، انتجت دروساً ونتائج وتقييمات كبيرة ستؤثر على تطوير تقنيات الحروب الحديثة الذكية، الهجومية منها والدفاعية، بقدر ما لها من تأثيرات على كيان العدو وإيران والمنطقة، جيوستراتيجياً، وعلى أية حلول أو حروب قادمة على مستوى المنطقة والعالم.
هذا لا يلغي بالطبع الجانب الكلاسيكي من الحروب والأسلحة، ولكن لا بد من فهم هذه التطورات واهميتها في الحروب الحديثة، كي لا يكون انعدام التكافؤ في التوازن التكنولوجي سبباً في خسارة نخب المقاتلين برغم روحهم القتالية العالية واستعدادهم للتضحية.
نختم بقصة حصلت في 2012، خلال الحرب في الشام وانشغال الجميع بها. كان هناك بحث في إمكانية فتح جبهة مقاومة في الجولان. فتم التواصل مع كل من له خبرة في المقاومة في لبنان، من القوميين وغيرهم، لتجميع ما يرونه اساسياً من احتياجات، ليتم تأمينها من مصادر حليفة. فكرّت سبحة الطلبات من تجهيزات تقليدية وأسلحة فردية ومتوسطة، وألغام متنوعة، وغيرها. ويوم سُئل أحد المخضرمين عن رأيه، كان الجواب: اطلبوا 400 مسيّرة ذكيّة. وقتها كان المصطلح غير معروف بعد في تلك الأوساط…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *