منذ إعلان المغفور له الملك فيصل عام 73 باستخدام سلاح النفط والأفخاخ تنصب لنا بشكل دوري على مساحة العالم العربي، إلى ان كان ما كان ووضع كارتل النفط يده على معظم آباره ولم يقتصر الأمر على العالم العربي بل وصل إلى فنزويلا ونيجيريا.
جميعنا يعلم ان في هيكلية الجيوش يوجد دائرة هندسة احدى مهماتها نزع الالغام (الافخاخ) التي يمكن للعدو ان يزرعها على ارض المعركة لدرء قوات المشاة كما والمدرعات. ان المجتمعات المتفسخة كالتي لدينا بحاجة ماسة إلى لهذا النوع من الدوائر، مهمتها الاساس نزع الفتائل وتجنب الأفخاخ التي ينصبها العدو عبر استخدامه لأدوات محلية تعمل عن جهل او دراية لأمر ما في نفس يعقوب بتفجير الداخل او لزعزعة الاستقرار تمهيدا للانقضاض على الجميع.
هذا الامر حدث عدة مرات في لبنان منذ ما بعد الاستقلال ان بال 58 او بال 75 او مع بداية الربيع العربي عام 2005 باغتيال رئيس وزراء لبنان الشهيد الحريري. والفخ الأخير اي عملية الاغتيال لولا فوج الهندسة المجتمعي المتشح بالسواد نتيجة الحرب الاهلية والحكمة التي تتحلى بها المقاومة لكنا شهدنا فصل جديد من فصول الحرب الاهلية.
بالطبع هناك أفخاخ يصعب تلافيها نتيجة التداخل المصلحي بين الأضداد كالفخ الاقتصادي الذي أودى بمدخرات فئة كبيرة من اللبنانيين ولو تدخلت المقاومة في هذا الشأن لكان يمكن تلافيه، اذ جاءت تصريحات السيد نصر الله بهذا الخصوص لتؤكد تلك الإمكانية عندما قال ان العقوبات التي طالت مؤسساتها حمتها من (البونزي) الأمر الذي جعلها موضع استهداف من قبل شريحة كبيرة من البيئة الحاضنة حتى الشيعية منها بانها تحمي الفاسدين.
الفخ الحالي يبدو ظاهراً للعيان ،فالعدو يسعى لتشتيت القوى بعد ان ذاق الأمرين من اصطفاف الساحات من اليمن للجنوب اللبناني ويعد العدة لإشعال حرب إقليمية وجر دول إقليمية وحتى كبرى اليها،ليستفرد في المقاومة ليس فقط بغزة والضفة بل وايضاً في بيروت ودمشق وصولاً لبغداد،واذرعته حاضرة على مساحة الهلال ولم يعد يجدي نفعاً فوج هندسة احادي كالذي يعمل في لبنان، بل اصبح المطلوب ايضاً تعميمه على دمشق وبغداد وصولاً لعمان ومروراً بما تبقى من منظمة التحرير ،بالسعي الجاد لطرح مبادرات داخلية سياسية وغيرها لإشراك اكبر شريحة ممكنة من المجتمع بعملية نزع الالغام ، وتوسيع رقعة الصراع العسكري لتطال الصراع الاجتماعي والسياسي الداخلي الذي من دونه لا قيمة لاي تحرير ولا لاي مقاومة والتاريخ شاهد على ذلك حيث استطاع العدو بان يفتح ملفات وصلت لاجتماع السقيفة ومعركة الجمل فما بالك بالجماعات الاثنية واهل الانعزال ولائحة الافخاخ التي لا يمكن حصرها التي قد لتصل لقحطان وعدنان.
رغم سوء النية لقرار الاستعمار في تفتيت الامة وإنشاءه لكيانات يعلم جيداً انها لن تقوم لها قائمة كدول ذات سيادة لاعتبارات عديدة إلا ان إعلانه لدولة لبنان الكبير يدخل في أحجية “رب ضارة نافعة “•لان هذه الدولة الصغيرة بين اشقاءها لعبت ولم تزل تلعب دوراً مفصلياً في تقويض أحلام الاستعمار ومشاريعه النهبوية.
لو عدنا بالتاريخ لزمن السلطنة لوجدنا سر ذلك الدور، حينما استطاع اهل الجبل اللبناني لأسباب عدة من ممارسة نوع من الحكم الذاتي فتح أمامهم حقول المعرفة وسعت آفاقهم، وفتحت أمامهم أبواباً كانت مقفلة لردح من الزمن حول ما كان يجري في العالم. الأمر الذي جعلهم عندما شعروا بنية سلطة الآستانة تحويل مشروع الخلافة إلى مشروع قومي تركي بدءاً من اللغة، دقوا ناقوس الخطر من خلال إطلاقهم للمعاجم اللغوية العربية التي ساهمت بالحفاظ على هوية كانت معرضة للتلاشي كما حدث مع إثنيات سبقتهم بالتواجد في المنطقة.
ان ذاك العمل الريادي المنبعث من الرحم الثقافي يمكن اعتباره حجر الزاوية لما شهده لبنان من مقاومة بكل أبعادها وشتى أنواعها، حيث ولد ذلك ليس لأهل الجبل فحسب بل لكل رعايا السلطنة في المقلب الشرقي وشمال أفريقيا شعور بالبحث عن هوية.
قد يقول قائل في هذا المضمار ان الفشل كان نصيبنا إذا ما ربطنا الأهداف بالنتائج. لهذا القائل ولغيره من المؤمنين بصبر أيوب الذين نراهم يراهنون بالسباق على الأرنب بدل السلحفاة، وينتظرون مخلصاً لا يدرون متى يأتي والى اين سيقودهم فيما لو ظهر، ولا يكتفون بذلك بل يقومون بمحاربة كل من يظهر محاولاً تصويب المسار، فينعتونه بالدجال ويقومون بقتله او نفيه، ويقولون له اذهب انت وربك قاتلا فنحن هنا قاعدون.
هذا التلاطم مرده الجهل والاتكالية وتغييب مفرط للشرع الأعلى الذي هو العقل. لأننا لو عدنا لمجريات التاريخ لوجدنا ان الشعوب لم تولد هوياتها كما يولد الاطفال، بل عبر مسارات زمنية قد تتجاوز القرون بل وعشراته حتى وان وجدت نراها غير ثابتة لأنها تؤثر وتتأثر بعوامل عدة كما حالة الارض اليوم مع التبدل المناخي الذي ينذر بمحق الكوكب باسره والعودة لزمن الطوفان.
ان تلك المقاومة الثقافية أطلقت العنان للمفكرين والمطلعين بتجسيد هوية ما بعد ان فشل الدين بفعل ذلك غرباً وشرقاً، إلا ان ذلك لم يمنع البعض بإعادة التجربة، لان الهوية التي صيغت لم تترجم نفسها عدلا عمرياً او شجاعة خالدية او ادارة أموية او علماً عباسياً او فقهاً اوزاعياً بل جل ما فعلته اقتباس الموقع الخلفائي دون مضمون يذكر، مع مشادات داخلية تشبه النزاعات القبلية ومطاردات الامن لكل من يقول لا.
حين يقارن البعض بين ما نحن عليه وبين ما صاغته أوروبا يصبح القياس غير ذي منطق فأوروبا خاضت جميع أنواع الصراعات الديني والإمبراطوري والملكي إلى ان وصلت في نهاية الأمر لان تكون قارة الولد الواحد بحيث افتقدت لأبسط أنواع الحماية الأمر الذي جعل الولايات المتحدة الاميركية تتحكم بقرارتها وتعتبرها خط دفاع اول رغم شساعة المحيط الذي يفصل بينها وبين أقرب غريم.
العرب اليوم لولا المقاومة لكانوا أوروبا ما بحد الحربين، تستغلهم الولايات المتحدة حتى في ثقافتهم الدينية لعرقلة مشاريع الوحدة والتنمية كما تفعل بالأوروبيين، وتخترع لهم منازلات فيما بينهم وفيما بينهم وبين دول الاقليم متكئه على سرديات تاريخ لا أحد يعلم من خط أحرفه. والمشروع المقاوم وان خطت المقاومة الفلسطينية بنوده الحديثة إلا انه يمكن اعتبار لبنان اعاد الألق لهذا المشروع منذ احتلال الصهاينة لثاني عواصم العرب، ليعود ويلعب الدور الذي لعبه رواد النهضة فيه حينما وقفوا في وجه التتريك وها هم احفادهم يفعلون ذات الفعل مع فكرة التهويد وفروعها من إبراهيمية وغيرها. كل الامل ان يعي البعض من ابنائه خطورة مواقفهم المنحاز للغرب كما ويعي اهل العروبة ان شقيقهم الأصغر يخدمهم في مقاومته لأنه من الاقحاح الذي يعتبرون ان صغير القوم خادمهم بلا منة او سواها.