عشية الذكرى التسعين لتأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي، لا بدّ من تأكيد الأسباب التي دفعت أنطون سعاده إلى توجيه سؤال لنفسه ولأبناء أمته، عما جلب عليهم ويلهم، والتي كانت أيضًا العوامل التي أدّت إلى تجزئتهم وتوزعهم كيانات وشيعًا وقبائل ومجموعات، منها الطائفي والمذهبي ومنها العائلي والعشائري.
إنها الذكرى التسعون لتأكيد سعاده على الجواب الذي قدّمه لسؤاله الوجودي: “من نحن؟” ولتحديده هوية أمته وكذلك جغرافيتها المستهدفة بثرواتها وأرزاقها وموقعها الاستراتيجي.
إنها الذكرى التسعون لتثبيت أهمية وحدة الأمة في مواجهة كل ما سبق وتعرضت له، منذ السيطرة العثمانية عليها لأربعة قرون، وصولًا إلى الانتدابين الفرنسي والبريطاني وما تلاهما من وعد بلفور واتفاقية سايكس – بيكو.
بعدما أعلن سعاده للملأ، عند انكشاف أمر الحزب، أن تأسيسه للحزب ليس فقط لمواجهة سلطة الانتداب بل من أجل غاية أهم ألا وهي جعل الأمة موحدة وصاحبة السيادة على نفسها، كان قد وضع مبدأه الأساسي بأن سورية للسوريين والسوريين أمة تامة، وذلك في رسالته من سجن الرمل عام 1935 إلى محاميه حميد فرنجية التي أوضح فيها سبب تأسيسه هذا الحزب.
ولقد حدد سعاده في المبدأ الأساسي الخامس جغرافية الأمة السورية التي تمتد من جبال طوروس في الشمال الغربي وجبال البختياري في الشمال الشرقي إلى قناة السويس والبحر الأحمر في الجنوب شاملة شبه جزيرة سيناء وخليج العقبة، ومن البحر السوري في الغرب شاملة شبه جزيرة قبرص إلى قوس الصحراء العربية والخليج العربي في الشرق، ويعبر عنها بلفظ عام هو الهلال السوري الخصيب ونجمته قبرص.
لم يأت فكر زعيمنا سعاده إلا من واقع الأمة ولنا في كتابات رواد النهضة أكبر مثال، كالشيخ بطرس البستاني وجبران خليل جبران وأمين الريحاني وآخرين من مفكري تلك الحقبة، رغم ما شهدته تلك الفترة وما سبقها من محاولات سلطات الانتداب لتعزيز واقع التفرقة وحالة الكيانية الإثنية والطائفية محل الشعور القومي والانتماء للأمة، وما أدى إليه ذلك من تمزق للنسيج الاجتماعي الواحد، بعدما هيمنت سياسة فرق تسد العثمانية طويلًا في نظام الملل والطوائف ومحاولاتها فرض هيمنة الحالة الطورانية وتتريك اللغة، عدا عن تدخلات القناصل واستقواء كل فئة بدولة. كل ذلك أدى إلى حالة من وهن الانتماء القومي وحل محله الانتماء الطائفي الملي.
في هذا المجال يقول سعاده “إن التساوي في الحقوق والتوحيد القضائي هما أمران ضروريان لنفسية صحيحة موحدة“. . . ويضيف أنه “بدون هذا التساوي تظل العقليات المختلفة التي كونتها الشرائع المختلفة معضلة تمنع الأمة من الاضطلاع بقضاياها. . . فتعدد الشرائع وأنظمتها الحقوقية تجزئ الأمة الواحدة وتمنعها من التقدم“.
ما أشبه اليوم بالأمس، بعد تسعين عامًا على تأسيس سعاده لـ”حركته الأصلية”، وبعد المنهج العلمي الذي اعتمده في أجوبته على تحديد للحيوية والقوة، وكذلك القدرة على استنهاض نفسها، لا تزال التجزئة تضعفها وتجعلها أقل منعة أمام الارتهان السياسي الخارجي.
وإذا كان عالم المسماريات الفرنسي شارل فيرلو قد قال يوماُ عن سورية “لكل إنسان في هذا العالم وطنان، وطنه الأم وسورية”، بعدما كشفت دراساته عظمة دور بلادنا الحضاري وأهميتها في التاريخ، فأن ما صنعته دول الاستعمار العظمى المهيمنة على العالم إلى اليوم، بكيانات الأمة لهو أمر مخيف في الانقسام الذي يزداد أكثر فأكثر.
نبدأ من فلسطين التي زرع فيها الاستيطان دولته فكان أغرب ما فيه أنه أعطى ما لا يملكه من أرض لمن لا يستحق من جماعات دينية عنصرية أخذت الأرض وما عليها وجعلت من أهل الحق والأرض من عصابات إرهابية” يفرغون منها تباعًا إلى شتات الأرض الواسعة.
أما الأردن الذي بعدما وضع في خانة المستسلمين، فوضعته اتفاقية “وادي عربة” ثم المشاريع المطروحة، أرضًا بديلة للضفة الأخرى، حتى بات يعيش حالة قلق مضاعف على ما يستهدفه من مشاريع ومؤامرات.
أما لبنان الذي مزقته الحروب الأهلية والطائفية فيتحكم بمقدراته نظام سياسي يهدد بالمزيد من التوترات والحروب التي يقصد منها اليوم بعد حصاره، ومحاولة انتزاع ورقة المقاومة منه، التي شكلت مشعلًا مضيئًا وحيدًا في كهوف الظلمة المستشرية.
أما العراق وهو كنز هذه الأمة الحضاري، فتفعل به الفتن والمؤامرات تمزيقًا وفدرلة، وقد أضعفته حروبه، وجعلت المطامع تعصف به، وتحرمه من قدرات نهريه العظيمين دجلة والفرات بفعل بناء السدود العظيمة من الدول المحيطة به بما لا يقبله أي قانون دولي.
فيما سوريا-الشام، لا زالت تعيش تداعيات الحرب الإرهابية الوهابية عليها ولا زالت تستكمل تحرير باقي نواحي هذا الكيان وأرضه الغنية بالثروات. وإذا كان سبق لتركيا أن سلخت لواء الاسكندرون فهي اليوم تهيمن على مناطق واسعة من إدلب إلى الحسكة والجزيرة، وأكثر مناطق الجمهورية السورية غني في النفط والغاز والأرض الزراعية والخصوبة. وقد أتت الحرب المستمرة إلى الآن من جنوبها والعدو الإسرائيلي يستمر بمحاولاته المدمرة لإضعاف سورية. كل هذه المخاطر تعزز مقولة سعاده بتساوي عدوي الشمال والجنوب وكذلك ما ارتكبته دول الخليج العربي من أدوار وهابية مدمرة بحق سورية.
إن الواقع الاستراتيجي اليوم الذي يقسّم العالم إلى محاور مختلفة ومعسكرات متنوعة الأهداف، يتم فيه أيضًا استهداف الدول الضعيفة وثرواتها، ما يجعلها هدايا على موائد تقاسم النفوذ.
في ظل هذه الأوضاع، لا يسعنا إلا أن نؤكد تموضعنا في محور المقاومة، لأنه وحده من خلال تحالفنا مع القوى المؤقتة بخيارات الشعوب، نحمي بلادنا من مطامع “الكبار” المستعمرين الجدد ذوي المخالب الناعمة.
إن هذا المحور، الذي بات الكيان اللبناني أحد أبرز مكوناته في المنطقة من خلال انتصار المقاومة وتمكنها أن تحرر لبنان وتلغي مفاعيل سايكس – بيكو، بعد انتقالها إلى محاربة الإرهاب في الشام ومساندة الجيش السوري، كان لا بد أن يدعمه حزبنا.
أيضًا، إن هزيمة داعش في العراق كانت استكمالًا لتوحيد هذا المحور، كما كانت انتصارات المقاومة في فلسطين المحتلة في غزة وانتفاضة شعبنا في جنين ونابلس وغيرها من المدن، تؤكد المسار باتجاه الوحدة القومية التي ينادي بها حزب سعاده. لقد ثبت لأبناء هذه الأمة قول سعاده: “إن الحق القومي لا يكون حقاُ في معترك الأمم إلا بمقدار ما يدعمه من قوة الأمة. فالقوة هي القول الفصل في إثبات الحق القومي أو إنكاره“.
إن الحرب على بلادنا وأمتنا ليست حرباُ عسكرية أمنية وحسب، بل هي أيضًا حرب اقتصادية وثقافية بامتياز، ونظرًا للحصار الذي تعيشه كيانات الأمة من المحور الغربي المهيمن والداعم للكيان الصهيوني يهدف إلى تحقيق المزيد من الإضعاف والرضوخ لشروط هذا المحور المعادي الذي يريد من بلادنا إما الانسياق أو الاستسلام. إن المطالبة باتحاد دول المشرق، أو السوق المشرقية باتت أمرًا ملحًا وهدفًا لا بد منه لخروج هذه الكيانات من أسر هذا الحصار والانفتاح على بعضها البعض بهدف تعزيز التنمية الاقتصادية في كل كيانات الوطن، ولوقف هجرة الشباب وإيجاد فرص العمل وتصريف الإنتاج الزراعي ودعم الصناعة، ثم تعزيز ثقافة نقض التجزئة بين جيل الشباب التواق للانتماء. إن مخاطر التجزئة، والتي تؤدي إلى إضعاف الأمة وخسارتها لمواردها البشرية والطبيعية، تطال العناصر الأساسية لحياة المجتمع وتطوره، لا سيما ما يحصل اليوم في العراق والشام من تهديد حقيقي.
للثروة المائية وبالتالي لأبسط مقومات الحياة والاقتصاد والاستفادة من الثروات التي ميّزت هذه البيئة الخصبة لآلاف السنين.
هذا الواقع الحالي للأمة ومآسيها يضع أمامنا من جديد فكر سعاده النير الذي يثبت صحته ويعيد تأكيد ما قدمه لنا الزعيم من وقائع علمية ومضامين فكرية تشكل الصيغة الوحيدة لإنقاذ الأمة.
الأمينة كوكب معلوف عضو في المجلس الأعلى في الحزب السوري القومي الاجتماعي.