حاوره إبراهيم مهنا
سؤال هل يمكن أن نبني عناويناً عامة للتفاعل السوري العربي التاريخي. بمعنى ما كان التأثير العربي على الحضارة أو النسق السوري ومجالاته؟
جواب:
قبل أن نجيب على سؤالكم ينبغي أن نقارب مفهوم العرب وسوريا أو المشرق، فالأمر هنا مهمٌ جداً في هكذا مقاربة لئلا يتم النظر للموضوع وكأنه عنصري او عرقي.
تاريخياُ العرب والمشرقيون هم أرومة واحدة (بانتظار جلاء الحقيقة السومرية الديمغرافية)، بناء على هذا يمكننا النظر علمياً الى أرومة واحدة اختلفتْ مكوناتها من ناحية الاجتماع البشري بحكم تفاعل المكون الاجتماعي مع بيئته الطبيعية بحيث تتولد أمامنا شخصيات مجتمعية ذات أصل واحد ولكن بتنوعات أساسها خصائص البيئة الطبيعية لكل مكون. ناهيك عن محورية الموقع الجغرافي وكمُّ التفاعلات والثقافية مع المجتمعات الاخرى.
بناء على ذلك فالتواجد الآرامي مثلاً تعاصرَ مع التواجد العربي في سوريا لكن وتيرة التسارع التفاعلي للأراميين بالمعنى الحضاري الاجتماعي سبقَ التفاعل العربي مع المشرق، السبب برأينا أن العامل البيئي المؤثر في تشكّل شخصية الجماعة كان له دورً مهمً في حركية التفاعل الحضاري، بمعنى أن الآراميين المشرقيين والذين تعود جذورهم الى جبل بشري في البادية الشامية كانوا اقرب للتفاعل السلس في بيئتهم رغم ما سبَّبوه من انسياحات أولية (بدوية)، خلقتْ صراعاً آشورياً حضرياً مع جماعات ما زالت على نسق البداوة ثم سرعان ما أسس هؤلاء الآراميون ممالكهم الحضرية على مدى بلاد الشام. بالمقابل أستغرقَ التفاعل العربي الوافد من شبه الجزيرة العربية الى سوريا فترةً طويلةً جعلتنا ننتظر حتى نهاية الدولة السلوقية \القرن الثاني والأول ق.م\ ليكونوا كيانات في بلاد الشام
فقيم التفاعل بين ثقافة عربية أولية وافدة كانت أبطأ من التفاعل الآرامي بسبب أن العربي الوافد احتاج زمناً أطول من أجل استيعاب الوجه الحضاري للمشرق، هذا إذاً شأن اجتماعي تفاعليٌ يختص بحركية المجتمعات وتفاعلاتها بناء على خصائصها الاجتماعية والبيئية وموقعها في السلّم التطوري بين رعوي أو زراعي أو مديني.
الآن، في المقاربة التاريخية نلحظ شيئاً مهماً في عوامل التفاعل الآرامي – العربي وهي أنه لم نشهد صراعاً آرامياً – عربياً حتى في وقتِ نشوء الممالك الآرامية على امتداد سوريا، لكن محور الصراع تركز بين الآشوريين الحضريين والعرب الوافدين والذين استقروا على الأطراف الجنوبية لبادية الشام وكذلك شمال شبه الجزيرة العربية بما أثر على التجارة الآشورية، بمعنى لم يكن العربي في صراعه مع الآشوري مٌسبّباً لزعزعة في المجتمع الآشوري في مدنه المختلفة على قاعدة انسياح عربي بدوي لممالك متحضرة بل تأخذ القصة هنا شكل حماية المملكة الآشورية لأمنها التجاري والاقتصادي وخطوط تجارتها، لهذا كانت صراعات آشور مع العرب تتركز في بلاد الشام وأطرافها الجنوبية التي تتحكم بمسار التجارة مع مصر ومع شبه الجزيرة العربية وهكذا.
الإشارة هنا إلى قاعدة مهمة: ليس الصراع هنا صراعاً عنصرياً أو عرقياً فالأصل واحد لكن المكونات اختلفتْ في انتماءها لسلم التطور الحضاري وهذا ينسحب على المكون الأموري في بداياته وقرأنا في الوثائق الرافدية ما أطلقه السومريون على الأموريين من أوصاف سلبية، كذلك الآراميين في بداياتهم الذين اجتاحوا بلاد آشور ووصلت تأثيراتهم السلبية حتى الدلمون / البحرين.
سأعطي مثالاً عن آلية تفاعل المكون العربي الوافد الى بلاد الشام كي نفهم سيرورة التفاعل الزمني مع بيئة مغايرة: ديودور الصقلي الذي كان مصدره الأساس المؤرخ هيرنيموس الكاردي HIERONYMUS OF CARDIA، وكان موظفاً ذا مرتبة في بلاط أنطيوخوس، وفي وصف الأنباط الأوليين في أول استيطانهم في البتراء إثر اندثار قبيلة قيدار في القرن الرابع ق.م يقول: “يعيشون في العراء، يدّعون أصلهم في أرض قفر لا أنهار فيها ولا ينابيع غزيرة، يمكن لأي جيش معادٍ أن يحصل منها على الماء، ليس من عاداتهم أن يزرعوا القمح، أو يغرسوا شجرة مثمرة أو يتناولوا النبيذ، ولا أن يبنوا بيتاً. وإذا وجد من يتصرف خلافاً لذلك يكون جزاءَه الموت، إنهم يتبعون هذه العادة؛ لأنهم يؤمنون بأنَّ الذين يمتلكون هذه الأشياء لكي يحتفظون بها؛ يكون من السهل على الأقوياء أن يجبروهم على القيام بما يأمرونهم به. بعضهم يربّي الجمال وبعضهم الآخر الغنم ويرعونها في الصحراء، إنهم مولعون بالحرية على نحو استثنائي، وكلما اقتربت منهم قوة من الأعداء يلجؤون إلى الصحراء، يستخدمونها حصناً لأنها تفتقر إلى الماء ولا يمكن للآخرين أن يعبرونها. أما ما يتعلق بهم وحدهم ولأنهم جهزوا خزانات تحت الأرض مبطن>. بعد ثلاثة قرون من هيرونيموس أتي سترابون وتحدثَ عن الأنباط بعد استيطانهم وتفاعلهم مع البيئة الطبيعية والاجتماعية، يقول: “إنَّ عاصمة الأنباط هي البتراء، البتراء يحكمها دائماً ملك من الأسرة المالكة، وللملك من بين مرافقيه شخص بمثابة مدير الأعمال يدعى الأخ. الأنباط شعب حساس وهم ميالون كثيراً إلى اكتساب الأملاك، حيث إنهم يغرّمون علناً أي شخص أنقص ممتلكاته ويمنحون ألقاب التكريم لأي شخص يزيدها، بيوتهم مكلفة بسبب استعمال الحجر، لكن المدن ليست مسوّرة بسبب السلم. إنَّ معظمَ البلاد مزودة جيداً بالثمار باستثناء الزيتون، لأنهم يستعملون السمسم بدلاً عنه، لا تربى الخيول، تتكفل الجمال بالخدمة، اللون السائد في حياتهم آنذاك هو الأرجواني”. لعلنا نتلمس بعد هذين المعطيين كيف يمكن لقيم ومعايير تفاعل البيئة الطبيعية والاجتماعية مع المحيط التجاري من أن تسهم في تغيير نمط الشخصية الاجتماعية تاريخياً؛ لهذا يمكننا أن نسقط حالة التفاعل هذه على مجمل النزوح البشري إلى المشرق المستندة إلى ثلاثة عوالم تفاعلية، سواءً سلباً أو إيجاباً، البداوة- الزراعة- المدينة، مع الملاحظة هنا أنه في العصر الإسلامي أصبحت كلمة نبطي تُرادِفُ كلمة مزارع أو فلاح.
هذا هو الخط العام والقاعدة المعرفية في تشكّل وتفاعل المجتمعات فيما بينها في كل الحضارات.
إذاً، لا صراع بين الآراميين والعرب بل تعدّى الأمر إلى تحالفات وتالياً تداخل بين المكونين مع مجرى الزمن، وبالمقابل تمحورَ الصراع الآشوري – العربي ذي الأسباب الاجتماعية بحسب مكانة كل مكون في السلم التطوري الحضاري.
مع التركيز هنا على أن النماذج الثلاثة الرعوية والزراعية والمدينية تُكمّل بعضها البعض في المساق الحضاري ولو بعد دفع ضريبة التفاعل وفهم الآخر في بدايات الاحتكاك.
طبعاً يقف بشكل عام مُسببٌ خفيٌّ يتجلى في ضربات المناخ ما يسبب الانسياحات الجائعة من كافة النماذج للمراكز الزراعية والمدينية المتأثرة بهذه الضربات.
بناءً على هذا نستطيع من خلال الوثائق الآشورية تبيان حال العرب الوافدين ومن ثم الذين استوطنوا على حواف البادية الشامية وأسهموا في خلخلة الأمن التجاري للملكة الآشورية
ما سبّبَ صراعاً قاسياً دفعَ ثمنه العرب ولو إلى حين.
لفهمِ طبيعة المكون العربي لابدَّ ألا نكرس النظرة الى العرب في هذه الفترة على أنهم قطّاع طرق أو سوى ذلك، المعطيات التاريخية تقدم وتدّل على وجود مراكز تجارية في شبه الجزيرة العربية ذات فعالية مهمة، ثمة حملة قام بها جمّالون من هناك نحو سوريا يعود تاريخها الى وقت مبكر من القرن الحادي عشر ق.م، شيء آخر مع 1300 ق.م حلَّ الجمل كوسيلة نقل مهمة في حركة جوَلان القوافل.
القوافل العربية آنذاك كانت تأتي نحو المشرق محملة بالبخور والعطور واللبان من اليمن كما تاجر العرب بالصوف المصبوغ بالأرجوان في بابل وآشور حيث كانوا يشترونه من مصر وربما من مدن الساحل السوري.
طرق التجارة آنذاك كانت تنطلق من البحر الأحمر الى الجناح الرافدي مجتازة الجناح الشامي ومدنه بما يقارب مسافة 1000 ك. م وبعد تعرف العرب على طريق دمشق تدمر الفرات استطاعوا اختصار الطريق إلى أقل من النصف، وهناك طريق آخر يخرج من البحر الأحمر إلى تيماء فدومة الجندل شمال شبه الجزيرة العربية وحتى الرافدين، كما ثمة طريق من البحر الأحمر إلى يثرب فحائل إلى أور جنوب الرافدين.
يشير المؤرخ أرنولد توينبي إلى أن تدجين الجمل جعل بدو السهوب العربية أشد خطراً على جيرانهم المتحضرين من ذي قبل، فمقابل نشاط تجاري للعرب نحو سوريا كان هناك نمط اجتماعي ما زال على الحالة الأولية من الثقافة ويشارُ هنا إلى معاناة شبه الجزيرة العربية في القرن الثامن ق.م من تفجر سكاني أدى إلى ارتحالات نحو المناطق الخصيبة.
فإذاً من أنساح نحو الشمال كان يحاول إيجادَ شروطٍ حياتيةٍ ووجودية تضمن له البقاء والاستمرارية وهذا ما أدى إلى تهديد حركة التجارة للملكة الآشورية.
نلحظ مدى ارتباط خطوط التجارة لكلا المكونّين ببعضها من هنا ندرك أهمية سيطرة العرب المتمركزين على خط التجارة والتحكم في النشاط التجاري الآشوري، لهذا حين نقرأ وثيقة ملك آشور ” شلما نصر” الثالث التي تعود إلى سنة 853 ق. م سوف يذكر فيها محاربته لتحالف آرامي -عربي –إسرائيلي، العربي هنا هو “جنديبو” الذي شارك بالمعركة بألف جمل،
جنديبو هذا يُعتقد أن تمركزه كان في دومة الجندل.
قال شلما نصر: “انطلقتُ من الفرات واقتربت من حلب. خافوا من القتال معي، وتجمعوا عند قدميّ. تلقيت فضة وذهباً ضريبة ولاء منهم. قدمتُ أضاحي للإله ادد الحلبي. انطلقت من حلب واقتربت من مدن إرخوليني ملك حماة. وأخضعت مدنه أدينّو وبرغا وأرغانا، واستوليت على ممتلكاته وغنائمه وموجودات قصوره، وأضرمت النار في قصوره. انطلقت من أرغانا واقتربت من قرقوا.
دمرت قرقرا عاصمته وخربتها وأحرقتها بالنار ألف ومئتا عربية حربية، وألف ومئتا حصان ركوب، وعشرين ألف رجل لأدد عيزيز (ملك) بلاد الحمير (دمشق)، وسبعمئة عربة حربية وسبعمئة حصان ركوب، وعشرة آلاف رجل لإرخوليني (ملك) حماة، وألفي عربة حربية، وعشرة آلاف رجل لأخاب ملك إسرائيل، وعشرة عربات حربية من إرقاتا/ تل عرقا شمال شرقي طرابلس لبنان، ومئتا رجل لِماتينو بعلي ملك أرواد، ومئتا رجل من أوشنانتو قرب جبلة، وثلاثون عربة حربية وعشرة آلاف رجل لِأدونو بعلي ملك سيانو قرب جبلة، وألف جمل للعربي جنديبو، و عشرة آلاف رجل لِبعشا العموني. هؤلاء الملوك الاثنا عشر استعان بهم للمساعدة ملك حماة. وقد خرجوا إلى المعركة ضدي. أرديت بالسلاح أربعة عشر ألفاً من محاربيهم، وجعل الإله أدد عاصفة تهب عليهم. ونثرت جثثهم بعيداً وجعلت فرقهم الكثيرة تنتشر في السهول. وجعلت دمهم يسيل بالأسلحة. لم تكف السهول لدفنهم وأقمت بجثثهم سداً على العاصي وكأنه جسر…”.
ثلاثمئة سنة قضاها الآشوريون لإخضاع العرب وحفظ طرق التجارة الآشورية، الملك “سنحاريب” الآشوري تمَّ وصفهُ من قِبل “هيرودوتس” فيما بعد بأنه ملك العرب والآشوريين.
المتأمل في قصر الملك “آشور بني بعل” في نينوى سيلحظ منحوتات جدارية تروي حروب آشور ضد العرب، ولا سيّما قبيلة “قيدار” فحين تمت السيطرة عليها طهّر الملك الآشوري القبيلة من آثامها، قالت الوثيقة: ” أقسمتم بالمنضدة المحملة وبشربكم من الكأس، وبإيقاد النار بالماء والزيت وبلمس أحدكم صدر الآخر عساهم أن يدخلوا هذا القَسَمَ في لحمكم ولحم إخوتكم وأبنائكم وبناتكم، تماماً مثلما يدخل هذا الزيت لحمكم”.
يُشار هنا إلى تقليد آشوريّ يَفرض على المدن التي احتلها بأنْ يأخذَ أبناء الحكام إلى آشور ليعيد تأهيلهم وليكونوا رهائنَ دبلوماسيين لضرورة التعهد في الولاء. هنا مع العرب نجد الملك الآشوري” أسر حدون” في شهر أيار من عام 676 ق.م يفرض إحدى السيدات التي تربّت في بلاط نينوى واسمها “تبوعة” ملكة على العرب، حيث أعيدت إلى دومة الجندل مع تماثيل الآلهة العربية المصادرة سابقاً من معارك معهم.
بشكل عام لم يكن وعيُّ للحضور العربي كاملاً، فهذه القبائل لم تأتِ للغزو والسلبِ بل كانت قبائل متكاملة تأخذ الأرض وتسبقها ثلة من المحاربين للحماية.
كما قلنا تمكّنَ الآشوريون من السيطرة على العرب وبذا تمت حماية خطوط التجارة الآشورية،
قيلَ: أفسدوا عليهم طريقة حياتهم وعيشهم حتى أصبحت البادية خلاءً لا يسكنها أحد إلا القليل، وأصبحت فلات تحمي حدود الدولة الآشورية. وعقب سقوط بابل تقريباً في منتصف الألف السادس ق.م أخذت القبائل العربية بالاستيلاء على المناطق الخصبة، ولا سيما شرق الأردن ومناطق أخرى في المشرق.
نلحظ بعد هذا الاستعراض التاريخي أن هناك منحيان في تفاعل العرب مع الديمغرافيا المشرقية:
المنحى الأول:
تفاعلات إيجابية بين العرب والآراميين
المنحى الثاني:
تفاعلات عسكرية سلبية مع الآشوريين.
بالمجمل لا يوجد تأثيرات عربية في هذه الفترة على النسق السوري ومجالاته لأن الاختلاف الثقافي في المستوى الحضاري حاضر بقوة وهذا في الحقيقة يختلف عن التأثير العربي مع الدخول الإسلامي إلى المشرق كونه جاء بكتابٍ وسيف.
بشار خليف