لم يمر أكثر من عام على سقوط الامبراطورية العثمانية وتحرر سوريا من هيمنتها وتوحشها إلا وعادت بشكلها وأطماعها العثمانية الجديدة بزعامة أتاتورك ، لتحتل أهم جزء من أرضنا السورية ألا وهي الجزيرة العليا وذلك في العام 1924 بعد توقيع معاهدة لوزان ، هذا الجزء من أرضنا السورية الغني بمياهه وخصوبة ارضه واعتدال مناخه والذي يمتد من السفوح الجنوبية لجبال طوروس وصولا الى حدود الجزيرة السورية والتي تضم العديد من المدن والمناطق الأثرية الهامة منها ( ماردين وغازي عنتاب وأورفه وديار بكر وكلس وشرناق ) وتقدر مساحته بحوالي (76000 كلم مربع) وتنبع منه أهم انهار سوريا ( دجلة والفرات والخابور وجقجق والساجور وحلب وعفرين ) والتي قامت على ضفافها العديد من الحضارات السورية (السومرية والبابلية والآشورية والآرامية ) بذلك نرى أن مصادر مياه هذه الأنهار وينابيعها باتت بيد المحتل التركي ، ورغم توقيع العديد من الاتفاقيات المائية وذلك في محاولة لتوزيع حصص المياه إلا أن تركيا لم تلتزم بها مطلقا”. بدأت الأطماع التركية وحرب المياه بداية في العام 1950 بقطع نهر حلب وذلك ببناء سد عليه وتحويل مياهه الى قرى كلس وعنتاب لخنق المدينة وتجفيفها وتهجير سكانها , هذا النهر الغزير الذي يسمى نهر قويق والذي كان يروي المدينة وبساتينها وجميع الأراضي المحيطة بها ويصب جنوب حلب ليشكل بحيرة طبيعية كبيرة مليئة بالأسماك والطيور البرية ، وأيضا ليروي الأراضي المرتفعة عن طريق نواعير مائية بنيت على ضفافه وكان يعتبر شريان الحياة لهذه المدينة العظيمة ، والذي يقطع مسافة 113 كلم في أراضي حلب و 16 كلم في أراضي كلس المحتلة , وبالانتقال الى الجزيرة السورية وبالتحديد الى حوض الخابور بدأت تركيا حفر آلاف الآبار حول منابع الخابور وانشاء السدود العديدة لتحويل مجراه الى داخل الجزيرة العليا المحتلة ، هذا النهر وروافده والذي يبلغ طوله 480 كلم من منبعه حتى التقائه مع نهر الفرات ليقطع مسافة 66 كلم في الأراضي المحتلة و 420 كلم في أراضي الجزيرة السورية مرورا بمدينة الحسكة قادما من مدينة رأس العين مارا بمدينة الشدادة وتل تمر انه الشريان الحيوي لهذه المدن وأراضيها الزراعية وبالأخص مدينة الحسكة التي يعمل الأتراك على تجفيها بشكل ممنهج ومنظم عن طريق قطع جميع مصادر المياه عنها لتهجير سكانها وتدمير أراضيها الخصبة وذلك بعد أن كانت سلة غذاء الشام سابقا” لتصبح مدينة منكوبة ، هذا النهر الذي نشأت أعظم الحضارات حول ضفافه كان أهمها الآشورية ، أصبح نهرا” موسميا” وتحول مجراه لتصريف المياه الآسنة والسيول ، نأتي أخيرا على ذكر نهر جقجق وروافده والذي يمر من مدينة القامشلي والقحطانية ويبلغ طوله من منبعه لمصبه 125 كلم منها 22 كلم داخل الأراضي المحتلة و 103 كلم داخل أراضي الجزيرة السورية ليصب ويلتقي مع نهر الخابور في مدينة الحسكة ، وما ارتكبته تركيا بحقة لا يختلف عما سبقه فقد حولت تركيا مجراه نتيجة بناء عدد من السدود وحفر العديد من الآبار حول منابعه وعمدت على تلويث مجراه ، فتحول ضمن أراضي الجزيرة السورية الى نهر موسمي جاف صيفا” , مما أدى الى خسارة ألاف الهكتارات الزراعية وتصحرها وخسارة الثروة السمكية ناهيك عن جفاف العديد من المدن وتصحر أراضيها وهجرة اكثر سكانها , مع تحول بعض أجزائه الى مستنقعات تنقل العديد من الأمراض كالليشمانيا والعديد من الأمراض الجلدية والتحسسية . ناهيك عن تلويث مجاري هذه الأنهار من قبل الجانب التركي بإلقاء مخلفات المصانع السامة فيها مما أدى الى ارتفاع حالات الإصابة بالسرطان أيضا” لتصل لأكثر من 12 ضعف عما كانت عليه سابقا”, ولا ننسى نهر الساجور الذي ينبع شمال حلب ويقطع مسافة 108 كلم يقطع خلالها 93 كلم ضمن أراضي حلب ليصب في نهر الفرات و 15 كلم ضمن الأراضي المحتلة تركيا” ليلحق به ما لحق بباقي أنهر الجزيرة السورية من قطع لمياهه وتلويث لمجراه وتدمير لبنيته السكانية و الزراعية والسمكية والبيئية, لنعد الى عفرين والتي عانت كثيرا” فلم يكتفي المحتل التركي بسرقة زيتونها وزيتها وتهجيرسكانها وانما سرق مياهها أيضا فقد قام بتحويل مجرى نهر عفرين ببناء سد كبير وتحويل مجرى النهر الى مدينة كلس والريحانية و سرقته أيضا لمياه بحيرة عفرين عن طريق مد شبكة من الأقنية وسحب كميات كبيرة من المياه الى الريحانية احدى مدن لواء اسكندرون المحتل , ويصل طول نهرعفرين الى 149 كلم ليقطع مسافة 95 كلم في أراضي عفرين و 54 كلم في أراضي غازي عنتاب وسيتم الانتهاء من هذه المشاريع قريبا لتكتمل بذلك حلقة التهجير السكاني الكامل وتفريغ البلدات والمدن من قاطنيها وتجفيف أراضيها الخصبة .
قال أنطون سعادة: “ما تزال حلب والجزيرة العليا مهددة بتوسع تركي جديد، ما دامت الأمة السورية تتخبط في حزبياتها الدينية”.
وقد صرح الرئيس التركي الأسبق ديميريل: “إن مياه الفرات ودجلة تركية ومصادر هذه المياه هي موارد تركية، انها مسألة سيادة، إن هذه أرضنا ولنا الحق في أن نفعل بها ما نريد”.
*مع العلم أن طول نهر الفرات 2850 كلم يقطع 1100 كلم ضمن أراضي الجزيرة المحتلة و600 كلم ضمن أراضي الجزيرة السورية و1150 كلم ضمن أراضي العراق. *ويبلغ طول نهر دجلة 1700 كلم يقطع 250 كلم ضمن أراضي الجزيرة المحتلة و50 كلم ضمن أراضي الجزيرة السورية و1400 كلم ضمن أراضي العراق. لتأتي أخيرا” الحصة الأكبر من الحرب المائية على مياه نهري دجلة والفرات ، فمنذ العام 1990 بدأ العمل في مشروع جنوب شرق الأناضول (GAP) وهو مشروع يتضمن انشاء 22 سد و 19 محطة توليد كهرمائية على كل من نهري دجلة والفرات وروافدها منها 14 سد على نهر الفرات بالإضافة لسد كيبان القديم ، ويعتبر اكبرها سد أتاتورك و 8 سدود على نهر دجلة أكبرها سد أليسو ، وتقدر القدرة التخزينية للمشروع بنحو 100 مليار/م3 من المياه وهذه القدرة التخزينية تمثل ثلاثة أضعاف القدرة التخزينية للسدود العراقية والشامية مجتمعة ، نلاحظ أيضا” أن مواقع هذه السدود يقع على منطقة صدع زلزالي كبير، فتشكل هذه السدود ضغطا كبيرا على الصفائح الأرضية مما ينذر بحدوث زلازل مدمرة في المنطقة ، ومن أهم وأكبر سدود هذا المشروع (سد أتاتورك) وقد تم افتتاحه في العام 1992 ويقع على نهر الفرات قرب أراضي الجزيرة السورية ويعتبر ثالث أكبر سد في العالم ويقدر مخزونه من المياه بحوالي 49 مليار/م3 ليحجز بحيرة مساحتها حوالي 1000 كلم2 وهذا يعادل كمية مياه دجلة والفرات مجتمعة لعام كامل ليأتي بعده سد كيبان ببحيرة حجمها 675 كلم2 المنشأ في العام 1972 ، وهنالك أيضا 13 سد جميعها على نهر الفرات وبعضها قيد الانشاء مع الأخذ بعين الإعتبار تدمير مناطق ومدن اثرية عديدة آشورية وآرامية وسريانية وجدت في مناطق انشاء هذه السدود ونهب آثارها وثرواتها . وبالانتقال الى نهر دجلة فقد انشأت تركيا اكبر السدود عليه وهو (سد إليسو) على بعد 65 كلم من الجزيرة السورية وحجمه التخزيني 42 مليار/م3 وتم تدشينه عام 2018 ، وبنظرة عامة فتركيا ليست بحاجة لهذا الكم الهائل من مخزون المياه فلماذا ؟، ويتوقع خبراء البيئة أنه عند الانتهاء من بناء جميع هذه السدود وملئها بالكامل فمن المحتمل انخفاض تدفق نهر الفرات الى ما يقرب الصفر حتى نهاية العام 2025 ونهر دجلة الى الثلث ويمثل النهران مصدرا” لنحو 90% من امدادات المياه في العراق والجزيرة السورية , أدت هذه المشاريع الى انخفاض المياه المتدفقة الى العراق والجزيرة وبالتالي تدمير الأراضي الزراعية الخصبة وتصحرها وارتفاع ملوحة التربة والأنهار وفقدان آلاف الهكتارات الزراعية وانخفاض محصول جميع المنتجات الاستراتيجية كالقمح والشعير والقطن والأرز وباقي الحبوب ونفوق العديد من انواع المواشي كالجاموس الذي كان يربى جنوب العراق وبالجزيرة والذي يعتبر من الأنواع المميزة وفقدان الثروة السمكية وتغيير المناخ وتحوله إلى جاف وصحراوي مع هبوب العواصف الترابية ، وانخفاض توليد الطاقة الكهرومائية الى أقل من 35% من طاقتها الانتاجية , ناهيك عن جفاف منطقة شط العرب جنوب العراق حيث نشأت بها بداية الحضارة البشرية وأنشأ فيها السومريون والبابليون اعظم نظام ري عرفه التاريخ وقامت بها حدائق بابل المعلقة فحيث وجد الماء وجدت الحضارة لتصبح الأن أرضا” مالحة موبوءة لا تصلح للزراعة أو الصيد أو البقاء وليفقد جنوب العراق والجزيرة السورية منذ بدأت تركيا بمشروع حرب المياه مالا يقل عن 200 كلم2 من الأراضي الزراعية كل عام مما أدى الى هجر العديد من القرى والبلدات والمدن الزراعية ونزوح سكانها وجفاف أراضيها وتملحها ، ناهيك عن الصراع المحتمل بين أبناء المناطق والقرى والمدن على موارد المياه القليلة المتوفرة محليا” .
من الممول الفعلي لهذه المشاريع ومن المخطط؟ بنظرة شمولية وبدراسة وبحث نجد أن الممول والمستفيد الأكبر منذ البداية هي دولة الاغتصاب اليهودية فمنذ بدأت تركيا بمشروعها وحربها المائية العسكرية تشارك الاثنان معا لنفس الغاية وهي تدمير الأمة السورية والسيطرة عليها وعلى موارها وتهجير سكانها استعدادا لاحتلالها ، فمنذ ثلاثة عقود قامت دولة الاغتصاب اليهودية وعن طريق شركاتها وبخبرة مهندسيها بتمويل انشاء هذه المشاريع والتي ستغطي حاجة تركيا والكيان اليهودي من المياه ، بالإضافة الى تحديد مكان بناء هذه السدود والجدير بالذكر أن هنالك 67 شركة ومؤسسة للكيان اليهودي تعمل في هذه المشاريع دراسة وتنفيذ ، بالإضافة لشراء مساحات كبيرة من الأراضي الخصبة على ضفاف هذه الأنهار واستثمارها من قبل مستثمرين ومزارعين يهود , وتقوم مؤسسة مشاو اليهودية بنقل التكنولوجيا وتدريب هؤلاء المزارعين ، بالمقابل سيحظى الكيان بحصة الأسد من المياه لزراعة صحراء النقب وتأمين سبل العيش الرغيدة لمستوطناته و تمويلها بحصة كبيرة من الكهرباء بعد الانتهاء من انجاز هذه المشاريع ، وقد وصل عدد السدود والبحيرات المنشأة في الجزيرة العليا ما بين كبير وصغير وبالتشارك مع دولة الاغتصاب 579 سدا وبحيرة تم انشاؤها للعمل على السيطرة على المنطقة والتحكم بمستقبلها ، نلاحظ أيضا” الخطورة في اختيار أماكن انشاء هذه السدود والمسطحات المائية فهي على منطقة ضعيفة جيولوجيا وهي منطقة زلازل تقع على الفالق الزلزالي للأناضول مما يترتب عليه احتمال حدوث زلازل مدمرة بالمستقبل كما حدث في العام 2023 , فحجم البحيرات وكمية المياه المخزنة , هذا الوزن الهائل سيضغط على القشرة الأرضية مما سيتسبب في تصدع هذه الصفائح الأرضية وانهيارها و سيؤدي الى حدوث زلازل مدمرة في المنطقة , والجدير بالذكر أن انهيار أحد السدود الكبيرة نتيجة حدوث زلزال أوعمل تخريبي (سد اتاتورك مثلا) والذي يخزن كمية من الماء تعادل غزارة نهري دجلة والفرات لمدة عام كامل مجتمعة سيؤدي الى انطلاق هذه الكمية الهائلة من الماء (جدار مائي) والتي ستجرف المدن والقرى على ضفتي نهر الفرات في الشام والعراق لتصل هذه الموجة العظيمة من الماء حتى الخليج ، وكذلك الأمر لو إنهار أحد السدود الكبيرة على نهر دجلة لحدث نفس الأمر ، يبدو أن بلادنا أمام سيناريوهات مرعبة .
يبدو أن بلادنا تتعرض لسيناريوهات مرعبة، وأننا أمام مرحلة أصعب قادمة على أمتنا يتوجب علينا العمل على التصدي لهذه المشاريع المدمرة والتي بدأت منذ عقود وما زالت مستمرة، الأطماع كبيرة وعظيمة واستمرارنا بضعفنا وتخاذلنا وانهزامنا وضياع هويتنا سينقلنا الى الشتات وستصبح أوطاننا ملك أعدائنا.