التصويب على سعاده وفكره… لماذا الآن؟ (3) والأخيرة

التصويب على سعاده وفكره… لماذا الآن؟ (3) والأخيرة

يُخصص موقع “فسحة”، الذي يقدّم نفسه كموقع “عرب 48″، زاوية مستقلة بين حين وآخر لنشر مقالات من الصحافة الفلسطينية التي كانت تصدر قبل قيام الدولة الصهيونية. ونحن لا نعتقد أن مسؤولي التحرير في “فسحة” اختاروا مقالاً للشيوعي الفلسطيني إميل حبيبي عشوائياً، بل هي خطوة مدروسة تتبع خطاً مرسوماً بدقة هدفه التصويب على سعاده وفكره. وإذا كان الصحافي العراقي موسى الشدادي، الذي تطرقنا إليه في الحلقة السابقة، أشار عرضاً إلى تهمة “نازية الحزب”، فإن حبيبي أفرغ في مقاله المُعاد نشره كل سمومه الشيوعية الصهيونية بمناسبة عودة سعاده إلى الوطن في آذار سنة 1947.
يقول المحرر في تعريفه لهذه الزاوية: “رحلة دائمة تقدّمها فُسْحَة – ثقافية فلسطينية لقرائها، ليقفوا على الحياة الثقافية والاجتماعية التي شهدتها فلسطين قبل نكبة عام 1948، وليكتشفوا تفاصيلها وذلك من خلال الصحف والمجلات والنشرات التي وصلت إلينا من تلك الفترة المطموسة والمسلوبة، والمتوفرة في مختلف الأرشيفات المتاحة”. وكان “الخيار” هذه المرّة من صحيفة “الغد” تاريخ 28 آذار 1947، تحت عنوان عريض “جراب الكردي”، وعنوان فرعي “عودة (الزعيم)”. ومن الواضح أن الشيوعي حبيبي أراد أن يسخّف أمام قرائه الاستقبال الاستثنائي الذي حظي به سعاده في مطار بيروت.
يلتزم حبيبي “الأدبيات” الشيوعية لفترة الأربعينات، ويكرر الشعارات والاتهامات التي وظفها الإعلام الشيوعي ضد سعاده وحزبه منذ الكشف عنه واعتقال قياداته سنة 1935. والحقيقة أن الذين يحلو لهم التلويح بتهمة النازية في وجه سعاده هم: إما أنهم يقصدون المظاهر الخارجية للحزب السوري القومي الاجتماعي كالزوبعة والتحية زاوية قائمة والانضباط النظامي الصارم. وإما أنهم يستهدفون العقيدة القومية الاجتماعية. وغالباً ما كان بعض القوميين الاجتماعيين يردون على تلك الحملات بنفي أية علاقة مع النازية الألمانية والفاشية الإيطالية، ويستشهدون بالخطاب المنهاجي الأول الذي ألقاه سعاده بتاريخ الأول من حزيران سنة 1935، والحزب ما زال سرياً حينها.
لكن حبيبي في مقاله هذا لا ينتمي إلى أي من النوعين، وإنما هو من جوقة المحرضين الشتّامين طراز ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي. إنه يستخدم أوسخ ما في القاموس الشيوعي الصهيوني: “يا ضيعة الآمال التي عُلّقت على عودة “الزعيم”… فما أن وطأت قدماه أرض الوطن اللبناني، حتى كسر عصاته في أولى غزواته… ولكن التحية الفاشستية التي استقبل بها (الفوهرر الممسوخ) أعوانه، ولكن الجنرال سبيرز وأموال الجنرال سبيرز، ولكن بهلوانياته وغيبياته، كل ذلك لم ينجه من المصير المحتوم… وإذا الشعب اللبناني الشقيق (…) يطلب محاكمته بتهمة الخيانة العظمى، وتهمة ممالأة الاستعمار البريطاني وتنفيذ وصاياه العشر. هذا مصير المماسيخ من الفهارير من كل جنس ولون”!
 ويواصل حبيبي، وهو النائب في الكنيست الصهيوني لمدة عشرين سنة (1952 – 1972 عداً ونقداً)، مواله المُمل والممجوج: “هو حزب تألف في سنة 1934 (الصحيح 1932) بأموال الفاشست الطليان، متّبعاً التعاليم الفاشستية النازية (…) ولمّا حدثت الأحداث (ما هي؟) في دولتي المشرق، وذهب الحكم الفيشي عنهما، فرّ “الزعيم” إلى الأرجنتين. وتقول جريدة “العمل”، جريدة الكتائب اللبنانية (أنعم وأكرم!)، إن الزعيم سُجِنَ في الأرجنتين ثلاث مرّات لثبوت تهمة الاختلاس عليه”! وللتوضيح فقط: سعاده غادر الوطن قبل اندلاع الحرب، والحكم الفيشي قام بعد سقوط فرنسا بيد القوات الألمانية، ولم يتعرض سعاده لأي تهمة مالية في الأرجنتين!!
وسرعان ما يتكشف جانب من أهداف هذه الحملة على سعاده وحزبه، يقول حبيبي: “من مضيّ ثلاثة أشهر تقريباً عقد هذا الحزب اجتماعاً كبيراً له في ضهور الشوير من لبنان. واكتشفنا هنا في فلسطين حقيقة جديدة، ذلك أن المدعو السيد يوسف صائغ، ذهب إلى هذا الاجتماع وألقى كلمة باسم فرع الحزب السوري القومي الاجتماعي في فلسطين (…) ثم إذا بالسيد يوسف صائغ هذا يُعَيَّن في مجلس بيت المال العربي (…) أن السيد يوسف صائغ يرفض توظيف أحد الشباب الفلسطينيين في بيت المال، لماذا؟ لأن هذا الشاب من المناضلين الجريئين ضد مشاريع الاستعمار البريطاني في بلادنا (…) هذا ما حدث بالتمام والكمال، أحيله إلى أمانة بيت المال لتتدبّر أمرها فيه بعد أن أعلنت أنها هيئة وطنية عامة، وأحيله إليها أيضاً لأنزّهها عن أن توظف عميلاً للاستعمار البريطاني في مكاتبها”.
وطالما أن حبيبي يحرّض على القوميين الاجتماعيين في فلسطين، فلا بأس بالنسبة إليه من توسيع الإطار: “الصحف اللبنانية جميعها – من اليمين إلى اليسار أيضاً – تطلب اليوم طرد المدعو فائز صائغ، وهو شقيق السيد يوسف صائغ من الأرض اللبنانية؛ لأنه لم يتورّع عن مهاجمة استقلال لبنان وتأييد المشاريع الاستعمارية البريطانية، إذ هو من قادة الحزب السوري القومي، وأحد المطالبين بتنفيذ مشروع سوريا الكبرى، والحكومة اللبنانية تبحث في أمر هذا الدخيل على لبنان، وفي مسألة إرجاعه إلى فلسطين”.
إذن المعضلة التي تؤرق حبيبي ليست سعاده بحد ذاته، وليست الحزب السوري القومي الاجتماعي، وإنما هي تشمل كل من له علاقة بالفكر القومي الاجتماعي. وتحت ستار من التهكم والسخرية والبذاءة، يتم تغييب الخلاف الجذري الذي طبع المواجهات بين الشيوعيين والقوميين الاجتماعيين حول الموقف من الحركة الصهيونية وقيام الكيان اليهودي على أرض فلسطين. فقد ظلت الحركة الشيوعية في الوطن السوري تدعو إلى تحالف الطبقة العمالية اليهودية والفلسطينية، وترفض المشاركة في التحركات الفلسطينية السياسية والعسكرية بحجة أنها تصب في صالح الطبقات البرجوازية والرأسمالية. ووضعت في سلم أولوياتها التصدي للفكر القومي عموماً، والقومي الاجتماعي تحديداً.
تبدّلت أشياء كثيرة منذ ذلك الزمن. اضمحلت الأحزاب الشيوعية، وانهارت المنظومة الاشتراكية السوفياتية. ومع ذلك يبقى هناك مَنْ يعجز عن الانتفاض على شرانق أحقاده المريضة. هؤلاء سنتركهم في غيّهم إذ لا شفاء لتعقيداتهم. إننا معنيون بتوضيح طبيعة السياسات التي انتهجها سعاده في علاقاته واتصالاته الدولية. فالقاعدة الأساسية التي تحكم التعامل مع الآخرين هي “مصلحة سورية فوق كل مصلحة”. ومن أجل تحقيق استقلال سورية ووحدة أراضيها وسيادتها على نفسها، ما كان سعاده ليتردد في المبادرة لفتح قنوات تواصل مع كل قوة دولية ذات تأثير على المسألة السورية.
عقد سعاده هدنة مع سلطات الانتداب الفرنسي سنة 1937، استمرت حوالي السنة. ثم غادر الوطن قاصداً المغتربات الأميركية لنشر العقيدة بين السوريين المهاجرين. وفي طريقه توقف في إيطاليا وألمانيا حيث التقى المسؤولين بصفته زعيماً سورياً فاعلاً. وقد أجبرته الظروف على البقاء في الأرجنتين بعدما رفضت القنصلية الفرنسية تجديد جواز سفره. ومع ذلك بادر إلى التواصل مع السفارة الفرنسية في بوانس آيرس عارضاً استئناف المفاوضات التي كان قد بدأها في الوطن. وفي الوقت نفسه كلف رفقاء بجسّ النبض للتباحث مع مندوبين من بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية وألمانيا وإسبانيا. وكانت تعليماته للموفدين القوميين تنصّ على إبداء المرونة، لكن على أساس المصلحة السورية. ففي رسالة إلى وليم بحليس بتاريخ 18 آب 1941 تتناول الاتصالات مع الإنكليز، يقول: “… إن هنالك مسائل كمسألة فلسطين ومشكلة الصهيونية، فالحركة القومية لا ترفض البحث لإيجاد حل لهذه المسألة لا يناقض مبدأ السيادة السورية”.
سعاده هو زعيم الحزب، والحزب هو دولة الأمة السورية. ومن حقه، بل من واجبه، أن يسعى في كل الاتجاهات السياسية لتحقيق مصالح سورية. ولا حرج أو خشية من التفاوض مع أي طرف مؤثر يمكن أن نحصّل منه على مطالبنا القومية المُحقة. إننا لا نتعامل مع الآخرين بالإيديولوجيا وإنما بالمصالح والأهداف التي تصب بمصلحة سورية في نهاية المطاف. سعاده السياسي، المناور، المفاوض، المحاور السلس، لا تشتّت رؤيته الحوادث الآنية المتغيرة أو الطارئة. فبوصلة المصلحة القومية بالنسبة إليه لا تؤشر إلا باتجاه سورية.
اتخذ سعاده موقفاً حاسماً ما أن وطأت قدماه أرض الوطن بعد غياب قسري دام حوالي تسع سنوات. أعلن في خطاب العودة على مسمع من الحكومة اللبنانية ومن خلفها الحكومات الأخرى المتواطئة مع العصابات الصهيونية: “لعلكم ستسمعون من يقول لكم إن في إنقاذ فلسطين حيفاً على لبنان واللبنانيين، وأمراً لا دخل للبنان فيه. إن إنقاذ فلسطين هو أمر لبناني في الصميم، كما هو أمر شامي في الصميم، كما هو أمر فلسطيني في الصميم. إن الخطر اليهودي على فلسطين هو خطر على سورية كلها. هو خطر على جميع هذه الكيانات”.
أما إميل حبيبي، فلم يجد في “جراب الكردي” سوى تلك البشاعات التافهة تعليقاً على استقبال أعلن فيه سعاده “العودة إلى ساحة الجهاد”… العودة إلى فلسطين.